عاطف منصور: بين الظل والقرار: حين يتحول النفوذ إلى إبتزاز  

المحامي عاطف حسن منصور

في الآونة الأخيرة، وجد اللبنانيون أنفسهم أمام وقائع خطيرة تتعلق بإنتحال صفة وإدعاء نفوذ سياسي وتسويق وهم القدرة على التأثير في إستحقاقات دستورية داخلية بإسم دول صديقة، الأمر الذي أثار ضجة واسعة في الرأي العام. وبصرف النظر عن التفاصيل المتداولة وصحتها، فإن الخطورة الحقيقية لا تكمن فقط في شخص يدعي صفة أو يروج لنفوذ غير قائم، بل في البيئة السياسية التي سمحت بفتح هذا الباب وقبلت من حيث المبدأ فكرة التعامل مع القرار الوطني كسلعة قابلة للمساومة والإبتزاز.

 

ان إستخدام إسم دولة معروفة برفضها القاطع لهذه الأساليب لا يشكل إساءة لها بقدر ما يشكل إساءة مباشرة للدولة اللبنانية نفسها، ويكشف خللاً عميقاً في منطق بعض الممارسات السياسية التي تجاوزت المؤسسات الدستورية والأطر الرسمية، وذهبت إلى قنوات جانبية غير مشروعة، متجاهلة أن العلاقات بين الدول لا تدار عبر وسطاء ولا عبر مدعي نفوذ، بل عبر القنوات السيادية والقانونية المعروفة.

 

قانوناً، فإن الوقائع المتداولة، متى ثبتت، لا يمكن حصرها في إطار الإحتيال الفردي فحسب، بل قد تشكل منظومة أفعال جرمية متكاملة، تبدأ بإنتحال الصفة لما يمثله ذلك من مساس بالثقة العامة وهيبة الدولة، مروراً بالإحتيال القائم على الخداع وإستغلال الطموحات السياسية، وصولاً إلى جرائم الرشوة والتدخل غير المشروع في القرار العام إذا ثبت أن أموالا دفعت أو وعد بدفعها بقصد التأثير على مسار دستوري أو موقف سياسي. وفي هذا الإطار، فإن سقوط الوسيط أو إنكشاف زيف الإدعاء لا يعفي من حاول شراء النفوذ من مسؤوليته لأن النية الجرمية قائمة بذاتها، والمساس بالمصلحة العامة حاصل بغض النظر عن تحقق النتيجة.

 

والأخطر من ذلك أن هذه الوقائع ما كانت لتأخذ هذا المدى لولا وجود جهات سياسية ودينية فتحت المجال أمامها، وتعاطت مع وسطاء مجهولين، وإرتضت تجاوز النصوص والمؤسسات، متعاملة مع القرار الوطني كملف قابل للتفاوض في الغرف المغلقة. فالمسؤولية لا تقع فقط على من إدعى صفة أو روج وهماً، بل أيضاً على من قبل الدخول في هذا المسار، خصوصاً إذا كان من الذين يمثلون الشعب أو يدعون تمثيله، لأن صفة النيابة أو العمل العام لا تمنح أي حق في إستباحة الكرامة الوطنية أو الإلتفاف على الدستور والقانون.

 

قانوناً أيضاً، فإن إدعاء صفة غير حقيقية أو إنتحال صفة تمثيلية رسمية أو شبه رسمية يشكل جرماً معاقباً عليه وفقاً لأحكام المادة 392 من قانون العقوبات اللبناني، لما ينطوي عليه من مساس بالثقة العامة. كما أن إستعمال وسائل إحتيالية وخداع الغير بإدعاء نفوذ أو قدرة على التأثير بقصد إستحصال منفعة مالية أو غير مشروعة يشكل جرم الإحتيال المنصوص عليه في المادة 655 من قانون العقوبات. أما في حال ثبوت دفع المال أو الوعد به بقصد التأثير على قرار عام أو مسار دستوري، فإن الفعل يندرج في إطار جرائم الرشوة والتدخل في الوظيفة العامة المعاقب عليها وفقاً للمواد 351 وما يليها من القانون نفسه، سواء تحققت النتيجة المرجوة أم لم تتحقق. ويخضع للملاحقة الجزائية كل من الفاعل والمحرض والمتدخل والمستفيد، عملاً باحكام الإشتراك الجرمي المنصوص عليها في المواد 213 وما يليها من قانون العقوبات.

 

وأمام هذا الواقع، لا يجوز أن يبقى القضاء في موقع المتفرج. فالنيابات العامة مدعوة من تلقاء نفسها إلى فتح تحقيق جدي وشامل بكل الوقائع المتداولة، وإستدعاء كل من يثبت تعاطيه أو تواصله أو دفعه أو وعده بالدفع، والتدقيق في مصادر الأموال والمسارات التي سلكتها، وتحديد المسؤوليات الجزائية بلا أي تمييز. أما إذا تبين أن بعض المتورطين يشغلون مواقع نيابية، فإن الأمر يفرض تحريك الآليات الدستورية المنصوص عليها في المادتين 39 و40 من الدستور، لان الحصانة وجدت لحماية الرأي والعمل التشريعي، لا لتوفير غطاء لأفعال جرمية تقع خارج هذا الإطار.

 

كما أن الدولة اللبنانية مطالبة بإثإتخاذ موقف واضح وحازم يحمي هيبة مؤسساتها ويصون علاقاتها مع الدول الصديقة من التشويه والإستغلال، لأن الصمت في قضايا من هذا النوع لا يفسر حياداً، بل تقصيراً قد يرتقي إلى مستوى المسؤولية. فالدولة التي لا تبادر إلى المحاسبة، تترك المجال مفتوحاً أمام تجار الأوهام والنفوذ ليستبيحوا النصوص والقوانين والكرامات الوطنية.

 

صفوة القول، إن ما يجري اليوم ليس فضيحة أشخاص، بل إختبار فعلي لفكرة الدولة وسيادة القانون. فإما يقال بوضوح أن القرار الوطني ليس للبيع، وأن إسم الدول ليس مادة للتضليل والإبتزاز، وأن القانون فوق الجميع، وإما يستمر الإنحدار ويصبح العبث بالسياسة وبالثقة العامة أمراً عادياً بلا رادع. وفي مثل هذه القضايا، لا يقاس الموقف بكثرة الكلام، بل بالفعل القضائي وبالمحاسبة الجدية، لأن العدالة حين تتأخر تفقد معناها، وحين تغيب يصبح الصمت شراكة.

عن mcg

شاهد أيضاً

almontasher: رصيف صحافة اليوم الجمعة 26كانون الاول 2025

almontasher: رصيف صحافة اليوم الجمعة  26كانون الاول 2025   الديار :     “رسالة” حاسمة …