أميركا وروسيا وحرب أوكرانيا: دروس وعبر !

د. عدنان منصور-وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

almontasher : بدأت العمليات العسكرية الروسية ضدّ أوكرانيا، بعد سلسلة من الإجراءات السياسية والعسكرية العدائية، والمستفزة، ضدّ روسيا وأمنها القومي، ومجالها الحيوي، قام بها زيلينسكي، مستغلاً دعم وتأييد الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي له، واللذين كانا يرغبان بتوسيع النطاق الجغرافي لحلف شمالي الأطلسي (الناتو) ليضمّ أوكرانيا له، ويلاصق الخاصرة الجنوبية لروسيا، بعد أن تمدّد الحلف شمالها وغربها.
إزاء تهديد أمنها القومي، لم يكن أمام موسكو من خيار سوى المواجهة، وإجراء عملية جراحية عسكرية تضع حداً للمخاطر الأمنية والاستراتيجية التي يشكلها التحالف الغربي ـ الأوكراني ضدها.
زيلينسكي، دمية الغرب، استخدمته أميركا وأوروبا كي يكون لهما جسر عبور، يدفعانه لجرّ روسيا إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، مع دعمهما الكامل له عسكرياً ومالياً واستخبارياً، بغية إرهاقها وإكراهها على الانسحاب من أوكرانيا مهزومة، كما حصل للاتحاد السوفياتي في أفغانستان. لكن أوكرانيا تختلف عن أفغانستان كلياً، نظراً لموقعها الأمني والاستراتيجي في أوروبا، وأهميتها بالنسبة إلى روسيا بالذات. إنّه موقع لا يمكن لموسكو تجاهله، أو التفريط به، أو التساهل حياله، لا سيما أنّ الغرب، وعلى رأسه واشنطن يريد أن يؤدي زيلينسكي الدور المطلوب منه لإغراق روسيا في المستنقع الأوكراني.
روسيا دخلت الحرب في أوكرانيا لا لتخسرها مهما طال الوقت، ومهما كان الثمن الغالي الذي ستدفعه في الأرواح والمعدات، وأياً كان الدعم العسكري والمالي الهائل الذي سيوفره الغرب لكييف. إنها حرب لا مجال فيها للهزيمة، لأنّ هزيمة روسيا يعني تقهقرها، وتراجعها، وتحجيم دورها على الساحة العالمية، مما سيجعل الغرب في ما بعد يتجرّأ على زعزعة اتحادها، والعمل على تفكيك جمهورياتها الاتحادية، كما حصل مع دول الاتحاد السوفياتي السابق.
قبل اكتمال السنة الرابعة من الحرب التي بدأت في شهر شباط/ فبراير 2022، وبعد تدخل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كداعم أساسي لأوكرانيا، وفرض العقوبات الاقتصادية والمالية والتجارية على روسيا، والتوقف عن شراء الغاز والنفط منها، أصبحت أوكرانيا عبئاً ثقيلاً على واشنطن وبالذات على الدول الأوروبية التي شهدت تضخماً وارتفاعاً في الأسعار، وأوضاعاً اجتماعية صعبة، جعلتها في وضع لا تُحسَد عليه، فيما واشنطن تدير الحرب من وراء المحيط.
لم يستطع الغرب رغم كلّ وسائل الدعم العسكري والمالي التي وفرها لكييف على مدى أربع سنوات، حسم الحرب لصالح أوكرانيا، لذلك أراد تزويد أوكرانيا بأسلحة استراتيجية رادعة (كصواريخ توماهوك)، مما جعل موسكو تلوّح باستخدام أسلحة استراتيجية رادعة غير تقليديّة، وتوجّه رسالة تحذير لكلّ من يحاول تزويد أوكرانيا بسلاح نوعي، لأنّ حسم الحرب لصالح أوكرانيا مرفوض بالمطلق من جانبها. أمام التقدّم العسكري الروسي، وتقهقر الجيش الأوكراني الذي خسر حتى الآن 250 ألف قتيل، عدا عشرات الآلاف من الجرحى، كان لا بدّ من مخرج للحرب تولاه الرئيس الأميركي ترامب، ليأخذ المبادرة ويضغط على زيلينسكي، دمية واشنطن، تحرّكه كيف ما شاءت، وتملي عليه ما تريده لتنفيذه.
قبل مبادرة ترامب وخطته، وقع ترامب وزيلينسكي اتفاقية يوم 30 نيسان/ أبريل 2025 لإنشاء صندوق استثمار مشترك لإعادة الإعمار. أعطت الاتفاقية أولوية لأميركا في بعض مشاريع المعادن والطاقة في أوكرانيا، كما شملت أيضاً قطاع الغاز والنفط، وموارد الطاقة. الصندوق الذي هو ملكيّة مشتركة بين واشنطن وكييف، سيتمّ توجيهه لإعادة بناء أوكرانيا، والقيام بمشاريع تنمويّة فيها. أميركا ستحصل بموجبه على أحقيّة أولى في بعض المشاريع المعدنية والطاقة في أوكرانيا، ما جعل بعض المسؤولين الأوكرانيين يعربون عن قلقهم إزاء الاتفاقية التي ستمنح واشنطن نفوذاً كبيراً جداً على موارد وثروات أوكرانيا، فيما الاتفاق يركّز على الجانب الاقتصادي دون الأمني وهو اتفاق غير متوازن، أثار تساؤلات حول مدى السيادة، والاستقلال الاقتصادي والسياسي والأمني لأوكرانيا !
بعد أشهر قليلة من توقيع الاتفاقية، أطلّ ترامب بخطته لحلّ الأزمة الأوكرانية التي تتضمّن 28 بنداً، طالباً من زيلينسكي الموافقة عليها حتى يوم 27 من الشهر الحالي، فيما تمارس واشنطن ضغطاً قوياً عليه، وتهدّده بإيقاف الدعم العسكري والاستشاري إذا لم يوافق عليها. زيلينسكي الذي لم يرفض الخطة بالكامل، يريد ضمانات، ويحذر من التنازلات التي تمسّ سيادة أوكرانيا، لأنّ الخطة كما قال، تطرح خياراً صعباً “إما فقدان الكرامة”، أو “خسارة شريك مهمّ”! هل كان زيلينسكي يتوقع غير الأمر الواقع الذي ستفرضه واشنطن عليه، خاصة أنّ بعضاً من البنود الـ 28 تضمّنت الحدّ من سيادة أوكرانيا، كالتزام دستورها بعدم الانضمام إلى الحلف الأطلسي ـ “الناتو”، والتزام “الناتو” قانونياً بعدم قبول أوكرانيا فيه مستقبلاً؟! بموجب الخطة، واشنطن ستتقاضى تعويضات مقابل الضمان الأمني، وأيّ عمل عسكري قد تقوم به أوكرانيا ضدّ روسيا سيعتبر الضمان الأمنيّ لها ملغى، وعلى أوكرانيا الاعتراف بأنّ القرم، ودونيتسك، ولوغانسك أراضي روسية، وعليها أن تقلّص عدد أفراد جيشها إلى 600 ألف جندي، في حين تتعهّد الخطة بعدم توسّع “الناتو” مستقبلاً.
إنّها الحرب التي تسبّب بها زيلينسكي نتيجة سياساته المستفزة والمتهوّرة ضدّ روسيا، فمَن المستفيد منها ومِن نتائجها؟! ومَن الذي ربح، ومَن الذي خسر؟! المستفيدان هما روسيا وأميركا، والخاسران هما زيلينسكي والاتحاد الأوروبي. الولايات المتحدة ستستعيد كلّ ما دفعته لأوكرانيا، وستجني الأرباح من استثمارها، واحتكارها مشاريع حيوية ترتبط بالاقتصاد والطاقة، والمعادن الاستراتيجية، في حين ستكون أوروبا، القارة العجوز، الخاسر الأكبر لعدم تحقيق أهدافها ضدّ روسيا، جاعلة نفسها أكثر اعتماداً على أميركا والتصاقاً بها. أما روسيا فستحقق أهدافها بموجب الخطة، ومنها: لا لدخول أوكرانيا في حلف شمالي الأطلسي، ولا لتوسيع الحلف مستقبلاً. كما استطاعت روسيا أن تسلخ عن أوكرانيا مساحة أكثر من 100 ألف كلم²، أيّ أكثر من سدس مساحة أوكرانيا وتضمّها إليها، فيما أوكرانيا تكبّدت خسائر اقتصادية وبنيوية، بلغت حتى اليوم 524 مليار دولار وفقاً لتقرير مشترك من الحكومة الأوكرانية، والمفوضية الأوروبية، والأمم المتحدة لإعادة الإعمار في العقد المقبل.
هل كان زيلينسكي يتوقع النتيجة الكارثية التي وصل إليها؟ هل كان يعلم أنّ أميركا التي اعتمد عليها، تبحث عن مصالحها وليس عن مصالح الآخرين، وأنّها تُمسِك بخيوط المشكلة وتديرها وفق أهدافها، وهي على استعداد حين تدعو الحاجة أن تتخلّى عن “أصدقائها”، وتنزلهم من قطارها كلما كان ذلك ضرورياً لها، لتتركهم على قارعة الطريق.
ليت الحكام في عالمنا العربي الذين يلتحفون بأميركا، و”يتحصّنون” بها، ليأخذوا العبرة من أوكرانيا ورئيسها زيلينسكي قربان واشنطن!
عندما يقرّر الكبار في هذا العالم، لا مكان للصغار في لعبة الأمم، دورهم ينتهي وينتهون معه، بعد أن يؤدّونه بكامل الالتزام والطاعة.
لو أيقن زيلينسكي منذ البداية مصالح أوكرانيا، وما لها وما عليها، لما استفز بسياساته الحمقاء روسيا في عقر دارها بتشجيع وتغطية من الغرب، فكان حصان طروادة لأميركا وأوروبا، خسر ما خسره، دون أن يتعلم من وقائع التاريخ، انّ روسيا التي هزمت جحافل نابليون على أبواب موسكو وهزمت جيش هتلر على أبواب لينينغراد، وستالينغراد، والتي ضحّت بملايين الجنود للدفاع عن أرضها، ووحدة شعبها، لا تسمح مطلقاً لأوكرانيا ومن وراءها، أن تسجل نصراً عسكرياً، أو تشكل تهديداً لسيادتها وأمنها القومي.
سياسة أوروبا تجاه روسيا تتكرّر، والنتيجة هي هي… أوروبا خسرت، ومقاول العالم ربح من وراء المحيط، ليغرز نفوذه، في الاقثصاد، والاستثمارات والثروات الأوكرانية. أما قيصر روسيا فقد ربح أراضي واسعة لم يكن ليحصل عليها، لولا سياسة زيلينسكي المتهوّرة، الذي كان يُضحك جمهوره على المسرح عندما كان ممثلاً كوميدياً، نراه يبكيه اليوم وهو رئيس للجمهورية…!

عن mcg

شاهد أيضاً

حبيب وجه تحية للمصارف اللبنانية لصمودها

almontasher > لمناسبة “اليوم الدولي للمصارف” الذي يُحتفل به سنوياً في 4 كانون الأول وفق …