الذكاء الاصطناعي: اللاعب الأساسي في الاقتصاد والسلطة والوعي
نوفمبر 24, 2025
64 زيارة
أداة نهضة للمجتمعات بشرط أن نُحسن استخدامها
هيلدا معلوف:
المعتمدة باختصاص الذكاء الاصطناعي من جامعة أكسفورد
لم يَعُد الذكاء الاصطناعي تفصيلًا تقنيًا في هامش المشهد الرقمي. في أقل من عقد، خرج من المختبرات والشركات العملاقة ليتسلّل إلى تفاصيل حياتنا اليومية: يقيّم طلب القرض في المصرف، يقترح لنا ما نراه على شاشاتنا، يرشّح الأخبار، يعرض فرص العمل، ويساعد المؤسسات على فهم كيف نفكّر، وماذا نفضّل، وإلى أين يمكن أن نتّجه.
لم يعد السؤال هل سيؤثّر الذكاء الاصطناعي في حياتنا.السؤال الحقيقي اليوم أصبح كيف نحول هذا الذكاء إلى أداة نهضة عادلة وشفافة، بدل أن يصبح عبئًا أو مصدر تمييز.
الفرصة التاريخية واضحة: تقنية قادرة على مضاعفة إنتاجية الاقتصادات، وتحسين القرارات، وتوسيع الوصول إلى الخدمات. لكن هذه الفرصة لا تتحقق تلقائيًا؛ بل تحتاج إلى وعي، وتشريعات، ونُظم حوكمة تجعل الذكاء الاصطناعي في خدمة الإنسان، لا العكس.
اقتصاد أكثر كفاءة إذا وُضع الإنسان في المركز
الاقتصاد المعاصر لم يعُد مجرّد مصانع ومرافئ وأسواق مال؛ خلف كل ذلك تقف طبقة رقمية متقدّمة من الخوارزميات وأنظمة التحليل.في القطاع المالي، تقرأ أنظمة الذكاء الاصطناعي تاريخك المصرفي، وسلوكك الشرائي،
وطريقتك في دفع الفواتير، وقدرتها على التنبؤ بالالتزام بالسداد، لتمنح ملفّك “علامة ثقة” تساعد المصرف على اتخاذ قرار أكثر دقة وسرعة.
في مكافحة الاحتيال، تحلّل الخوارزميات آلاف العمليات في الثانية، تلتقط نمطًا غير مألوف، توقِف عملية مشبوهة، أو تُطلق إنذارًا داخليًا قبل أن يتكبّد العميل أو المصرف خسائر كبيرة. هنا لا تحلّ الآلة محلّ الإنسان، بل تمنحه رادارًا إضافيًا يعمل بسرعة تفوق قدرته بكثير، ليُعيد هو في النهاية تقييم الحالة واتخاذ القرار.
في التجارة الإلكترونية، تتيح أنظمة التوصية عرض المنتجات الأقرب فعلًا إلى احتياجات المستهلك، بدل إغراقه بعشرات الخيارات العشوائية. أنظمة التسعير الديناميكي، إذا استُخدمت بشفافية، تستطيع تحقيق معادلة منطقية: أسعار أكثر عدلًا، وهدر أقل في المخزون، وتجربة أفضل للمستهلك.
على الورق، يبدو كل ذلك كخطوة حتمية نحو اقتصاد أكثر ذكاءً ورشاقة. ولكي يتحوّل هذا الوعد إلى واقع عادل، يحتاج النظام الاقتصادي إلى ثلاثة شروط أساسية:
vشفافية في كيفية اتخاذ القرارات الخوارزمية، خصوصًا تلك المرتبطة بالقروض، والتوظيف، والتسعير.
vمراجعة دورية للبيانات التي تُستخدم في التدريب، لضمان خلوّها قدر الإمكان من الانحيازات التي قد تظلم فئات معيّنة.
vإبقاء القرار الأخير بيد مسؤول بشري، يملك صلاحية مراجعة ما تقترحه الخوارزمية وعدم الاكتفاء به كحقيقة مطلقة.
بهذا المعنى، يصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا في صياغة القرار الاقتصادي، لا حاكمًا منفردًا له.
من نفوذ القوة الصلبة إلى نفوذ البيانات والمعرفة
القوة في القرن الحادي والعشرين لم تعد تُقاس بالسلاح أو النفط فقط، بل بقدرة الدول والمؤسسات على فهم البيانات وتحويلها إلى معرفة قابلة للفعل.
هنا يبرز الذكاء الاصطناعي كلاعب رئيسي كأداة قادرة على قراءة ملايين الإشارات التي يخلّفها الأفراد والشركات على الفضاء الرقمي، وترجمتها إلى لوحات تحكّم تساعد صانع القرار على رؤية أوسع للمشهد.
خلال الأزمات، تستطيع الحكومات مثلًا قياس أثر السياسات الاقتصادية أو الاجتماعية بسرعة، بدل الانتظار لسنوات حتى تظهر النتائج. ومتابعة حركة الرأي العام لحظيًا، عبر تحليل النقاشات على المنصّات.
في هذا السياق، يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى أداة حوكمة أفضل اذ يمكنه دعم الشفافية في الإنفاق العام، وتحسين توزيع الموارد، وكشف مواطن الخلل في الخدمات الأساسية، إذا تم توجيهه نحو هذه الأهداف بوضوح وإخضاعه لرقابة مؤسسية وإعلامية جدية.
نعم، من يملك المنصّات والبيانات يملك نفوذًا مهمًا، لكن هذا النفوذ لا يجب أن يكون بالضرورة سلبيًا. حين تتبنّى الدول والشركات مبادئ واضحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي يتحوّل هذا النفوذ إلى مسؤولية لا إلى أداة هيمنة.
اللغة الثالثة من تكرار النمط إلى توسيع الوصول
أحد أكثر أوجه الذكاء الاصطناعي إثارة للجدل هو دخوله إلى حقل اللغة، بوصفها الأداة الأولى للتفكير والتعبير وصناعة الوعي. النماذج اللغوية التوليدية قادرة اليوم على كتابة مسوّدات مقالات وخطب ورسائل. و تلخيص كتب طويلة في صفحات قليلة. بالاضافة الى ترجمة النصوص بين لغات عدة بسرعة ودقة متزايدة.
للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر تهديدًا لدور الكاتب والصحافي والمترجم. لكن قراءة أكثر هدوءًا تكشف وجهًا مختلفًا اذ يمكّن الان الصحافي يمكن أن يستخدم الأداة لتجميع المعلومات الأولية، ثم يركّز جهده على التحليل والتحقيق والتدقيق، أي على جوهر العمل الصحفي لا على الأعمال الميكانيكية. و الطالب الذي كان يعاني لصياغة فكرة بسيطة، أصبح قادرًا على رؤية مثال لنص جيد، يتعلّم منه ويحسّن عليه.
بهذه الطريقة، يصبح الذكاء الاصطناعي مُسرِّعًا لغويًا، لا بديلًا عن العقل البشري. وحتى لا يتحوّل إلى مصدر لتسطيح الأسلوب وتوحيد النبرة، هناك مسؤوليات واضحة مثل الحرص على أن تبقى “بصمة الإنسان” في الفكرة، والزوايا، واختيار الشهادات، والبحث الميداني هي العنصر الحاسم في النص النهائي.
الذكاء الاصطناعي لا يكتب فقط نصوصًا؛ يمكنه أن يساعدنا في حماية لغتنا وتطويرها، إذا قرّرنا أن ندرّبه على محتوى عربي متوازن، وأن نستخدمه لتوسيع القراءة والكتابة لا لاستبدالهما.
نحو مجتمعات أكثر تمكينًا لا يُستثنى فيها أحد
على مستوى الأفراد والمجتمعات، يبدو وعد الذكاء الاصطناعي كبيرًا ومُغريًا. يمكن لهذه التقنية، إذا أحسنّا إدارتها، أن تصبح أحد أقوى أدوات تقليل الفجوات بدل تعميقه. ففي التعليم، يمكن لمنصّات مدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تقدّم محتوى عالي الجودة لتلاميذ في مناطق نائية، وأن تبني مسارات تعلّم شخصيّة تساعد كل طالب على التقدّم وفق سرعته وقدرته.
وفي الصحّة، يستطيع طبيب في مستشفى صغير الاستعانة بنموذج تشخيصي يرفع دقّة قراءته للصور والفحوصات، ما يحسّن فرص العلاج المبكر ويقلّل الأخطاء. وفي ريادة الأعمال، تمنح الأدوات التوليدية للشباب القدرة على تصميم شعارات، وبناء هويّات بصرية، وتحليل أسواق، وإنشاء حملات تسويقية، من دون الحاجة إلى ميزانيات ضخمة.
هذه كلها مظاهر تمكين حقيقي إذا أُحيطت ببنية تحتية رقمية مناسبة، وببرامج تدريب تساعد الأفراد على استخدام الأدوات بوعي واستقلالية.في المقابل، الخطر لا يكمن في التقنية ذاتها، بل في أن نترك جزءًا من المجتمع خارج اللعبة.
لذلك، الحديث عن الذكاء الاصطناعي كأداة نهضة لا ينفصل عن تحديث أنظمة التعليم، توسيع البنى التحتية الرقمية، وتصميم برامج تدريب مستمرة للكبار والصغار، حتى لا يتحوّل “العقل المساعد” إلى امتياز نخبة صغيرة، بل إلى مورد مشترك يُتاح للجميع ضمن حدود عادلة ومسؤولة.
إدارة المخاطر هي جزء من الاستفادة لا نقيض لها
الحديث عن مخاطر الذكاء الاصطناعي لا يعني رفضه ، بل وضعه في إطار ناضج. كل أداة قوية تحتاج إلى إدارة مخاطر كي نستفيد منها بأكبر قدر ممكن.
نعم، هناك تحيّزات يمكن أن تتسرّب إلى النماذج إذا استنسخت ظلم الماضي من بياناته؛ لكنّ الحل ليس رفض الذكاء الاصطناعي، بل الاستثمار في أطر تشريعية تُلزم الشركات بالإفصاح عن كيفية تدريب نماذجها في المجالات الحسّاسة. ونعم، هناك إمكان لاستخدام تقنيات التزييف العميق ونماذج النصوص في التضليل، لكن في المقابل يمكن لنفس التقنيات أن تُستخدم لكشف التلاعب، ورصد المحتوى المزيّف، وحماية الفضاء الإعلامي، إذا تبنّت المؤسسات الإعلامية والهيئات الناظمة أدوات رصد وتحليل متقدّمة.
بهذه الروح، يصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا من منظومة حماية الحقيقة، لا تهديدًا لها، شرط أن تتقدّم التشريعات وأخلاقيات المهنة خطوة مع هذه الأدوات، لا أن تبقى متأخّرة عنها.
عقد إيجابي جديد بين الإنسان والآلة
أمام هذا المشهد، يبدو واضحًا أن الذكاء الاصطناعي ليس “وعدًا سحريًا” ولا “خطرًا داهمًا” بحدّ ذاته؛ بل هو قوّة مضاعِفة لما نقرّر نحن أن نفعله بها. يمكنه أن يسرّع التقدّم، أو يسرّع الأخطاء؛ أن يوسّع الفرص، أو يوسّع الفجوات؛ أن يعمّق فهمنا للواقع، أو يعمّق الضباب من حولنا.
الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة في اتخاذ القرار، لا بديلًا عن المسؤولية البشرية.البيانات مورد استراتيجي، لكنّها في الأصل تعود لأصحابها، وخصوصيتهم خط أحمر. الخوارزميات يمكن أن تخطئ، ولذلك يجب أن تبقى قابلة للمراجعة والنقد والتعديل.
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون فعلًا اللاعب الأساسي في الاقتصاد والسلطة والوعي، ولكن كلاعب في فريق الإنسان، لا في مواجهته؛ أداة توسّع أفقنا، وتُحسّن قراراتنا، وتفتح أمام مجتمعاتنا فرصًا جديدة للتقدّم، بشرط أن نبقى نحن من يحدّد قواعد اللعبة، ومن يتحمّل مسؤولية نتائجها