منصور:قانون البلديات: مقبرة التنمية المحلية في لبنان.
سبتمبر 18, 2025
155 زيارة
نقر الصورة لتكبيرها
المحامي عاطف حسن منصور – رئيس بلدية برج البراجنة السابق
almontasher :منذ صدور المرسوم الإشتراعي رقم 118 بتاريخ 30/6/1977 وما تلاه من تعديلات بموجب المرسوم 665 بتاريخ 29/12/1977، لا تزال البلديات اللبنانية أسيرة نصوص بالية لا تصلح لهذا الزمن.
أكثر من نصف قرن مضى، وجيل كامل غادر الحياة، فيما نحن ما زلنا عالقين في نظام عقيم وقانون مهترئ ودولة مشلولة تتعامل مع البلديات كملحق صغير لإداراتها المترهلة.
للأسف، لم تدرك السلطة يوماً أن البلديات هي الأساس لأي مشروع إنمائي حقيقي، لا بل المرآة اليومية لحاجات الناس، ووحدها القادرة على أن تكون بديلاً فعالاً عن وزارات فشلت منذ عقود وما زالت.
نصت المادة الأولى من قانون البلديات على أن البلدية “شخص معنوي يتمتع بالاستقلال المالي والإداري”، وللمفارقة المؤلمة، بقي هذا الإستقلال حبراً على ورق. فالبلديات لا إ ستقلال لها، لا مالياً ولا إدارياً، ومواردها مقيدة بمزاج السلطة المركزية، فيما مشاريعها تدفن في أدراج الوزارات والمحافظات. وحتى الوزارات نفسها التي يفترض أن تنفذ المشاريع في نطاق البلديات باتت عاجزة بسبب شح التمويل، تاركة البلديات تتحمل عبء تنفيذ المشاريع بأدوات محدودة، وكلمة حق تقال أن بعض إتحادات البلديات إجتهدت بمبادرات ذاتية وبإمكانات محدودة لدعم البلديات، وأبقت أبواب هذه البلديات مفتوحة في خدمة الناس حين كان يفترض أن تغلق.
أما على المستوى الدولي، تظهر التجارب أن نجاح البلديات لا يتم إلا باللامركزية الإدارية والمالية. فبلدية إسطنبول تجاوزت ميزانيتها عام 2025 أكثر من 564 مليار ليرة تركية، وتدير النقل العام والمياه والصرف الصحي والبنى التحتية والثقافة والتنمية المستدامة والسياحة، متفوقة على وزارات كاملة. وفي فرنسا، بلديات مثل ليون وديجون تنفذ مشاريع بمليارات وتضع خططاً تمتد لعقود. ألمانيا واليابان والسويد والدول الإسكندنافية، وحتى تونس والمغرب والأردن وإيران، منحت بلدياتها صلاحيات واسعة لإدارة المدن والخدمات، ما مكنها من أن تكون شريكاً فعلياً في التنمية.
أما في لبنان، فالبلديات بالكاد تؤمن رواتب موظفيها، وإذا فكرت في مشروع بسيط، تصطدم بالبيروقراطية والسياسة لتبقى المبادرة حبراً على ورق حتى نهاية الولاية، فيسقط المشروع مع سقوط المجلس.
ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن قانون الشراء العام الذي يفترض أنه جاء لتعزيز الشفافية، تحول إلى متاهة تقيد البلديات أكثر مما تحررها، فتصبح أي مبادرة معرضة للتعليق أو الإلغاء، والمواطن هو الخاسر الأكبر.
كما تنص المادة 47 على أن “المجلس البلدي يضع الموازنة السنوية ويقرها”، لكن أي معنى لموازنة مرهونة بتحويلات الصندوق البلدي المستقل الذي تسيطر عليه الدولة؟ وكيف توضع خطة مالية إذا لم يعرف المجلس متى ستصل موارده أو بأي قيمة بعد ابتلاع التضخم لكل ليرة وتتحول الموازنة حينها إلى أرقام جوفاء وصفحات بلا جدوى ومسرحية حسابية بلا جمهور.
ومما يزيد الطين بلة، أن الدولة في السنوات الأخيرة إعتمدت على الجمعيات والمنظمات الدولية لتقديم الدعم للبلديات لأسباب إنسانية وتنموية، إلا أن هذا الدعم إقتصر على بلديات محددة وفق إعتبارات سياسية، فحرمت بلديات أخرى من أبسط مقومات النهوض، فيما حصلت بعض البلديات على الأولوية، معمقة الفوارق بدل ردمها.
إذن، الأزمة ليست مالية فقط، بل أزمة قانون ورؤية. فالقانون البلدي الحالي وضع في زمن لم يعرف الثورة الرقمية ولا النمو السكاني ولا التغير المناخي ولا حتى أبسط مفاهيم التنمية المستدامة. نصوصه تكبل البلديات حتى في أبسط الأمور لأن المادة 60 تمنعها من إستحداث وظائف جديدة إلا بموافقة السلطة المركزية، ما يحول البلديات إلى رهينة بيروقراطية قد تستغرق سنوات.
وليس هذا فحسب، فالمجالس نفسها تعاني من علل داخلية، إذ غالباً ما يتم إختيار الأعضاء وفق المحاباة العائلية والحزبية والعشائرية، لا الكفاءة، ما أدى إلى فقدان الشرعية الشعبية وتحويل البلديات إلى ساحات صراع بدلاً من ورشات عمل إنمائية. ولا يخفى على أحد أن نسبة العاملين بجد والخبرات العملية قليلة حتى في كبرى المدن، فكيف يتوقع من مجلس يفتقر للكفاءة أن يدير بلدة أو يضع خطة بسيطة؟
صفوة القول، قتلت الدولة روح البلديات، وفرضت عليها قوانين عقيمة وأغرقتها في الروتين، فيما المجالس نفسها عاجزة أو فاقدة للشرعية والمواطن اللبناني أصبح أسير زنزانة مغلقة: لا كهرباء ولا ماء ولا نقل عام ولا مشاريع تنموية أو خدماتية وراح يلهث وراء دولة لا تراه إلا رقماً على ورق.
اليوم، نحن بحاجة إلى ثورة تشريعية حقيقية تعيد صياغة قانون البلديات من جذوره، وتحرر الصندوق البلدي المستقل، وتضمن وصول الموارد مباشرة إلى البلديات، وتمكنها من إتخاذ القرارات دون إنتظار موافقات بيروقراطية قاتلة. يجب وضع معايير للكفاءة بدل المحاصصة وتمكين البلديات من التوظيف وإشراكها كشريك فعلي في السياسات الوطنية لا كواجهة مزخرفة لدولة فاشلة. إما أن يحدث هذا التغيير الجذري سريعاً، وإما أن تبقى بلدياتنا رهينة قانون مهترئ ودولة غائبة، فيما المواطن عالق تحت سندان الدولة ومطرقة البلديات المكبلة، والعالم من حولنا يركض إلى المستقبل ونحن ما زلنا غارقين في الماضي.