نورا علي المرعبي:بلديات لبنان بعد الاستحقاق

 خارطة طريق وطنية للحوكمة والتنمية ومكافحة الفساد بقيادة نسائية

بقلم: نورا علي المرعبي

مدير عام الجمغية اللبنانية الفرنسية للعلوم التقنية 

almontasher>>حين يُنجز استحقاق انتخابي في بلد يمر بأزمات مركبة، فإن السؤال لا يكون فقط: من فاز؟ بل ماذا بعد؟
لقد جرت الانتخابات البلدية في لبنان، وأسفرت عن نتائج متباينة، لكن ما يستحق التوقف عنده هو وصول عدد مرتفع من النساء إلى المجالس البلدية، في سابقة تحمل أبعادًا رمزية وعملية في آنٍ معًا.
البلديات اليوم، ليست فقط مجالس خدماتية بل مؤسسات سيادية مصغّرة، بإمكانها أن تؤسس لنهج جديد في الحكم المحلي، وتعيد الاعتبار للعلاقة بين الدولة ومواطنيها من القاعدة إلى القمة.

**البلدية: من المزاحمة السياسية إلى الأداة الوطنية للتنمية**

الممارسة البلدية في لبنان ظلت لعقود محكومة بمصالح العائلات السياسية وتحالفات انتخابية ضيقة الأفق. والنتيجة كانت أن البلديات عجزت عن أداء دورها الحقيقي كأدوات تنمية، وبقيت محصورة في دور تنفيذي محدود ومحكوم بالزبائنية.

ما تحتاجه البلديات اليوم هو تحول جذري في وظيفتها:

* من التنفيذ إلى التخطيط المحلي المتكامل، الذي يستند إلى قراءة دقيقة لاحتياجات كل منطقة.
* من التبعية إلى الاستقلال المالي والإداري، عبر تطوير مواردها الذاتية وتنمية القدرات البشرية داخلها.
* من الفوضى الإدارية إلى الحوكمة التشاركية، التي تُشرك المواطن، المجتمع المدني، والخبراء في صنع القرار.

المجلس البلدي لا يجب أن يكون واجهة انتخابية، بل خلية إنتاج دائم، تستثمر في البنية التحتية الاجتماعية، والبيئية، والاقتصادية. المطلوب هو بلدية ترى في كل قرار وسيلة لرفع جودة حياة السكان، لا لترسيخ النفوذ.

**الفساد يبدأ من المحليات… وكذلك الإصلاح**

لا يمكن الحديث عن إنماء محلي دون مواجهة بنية الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة، ومنها البلديات.
الخلل ليس فقط في الأفراد، بل في النظام الإداري الذي يفتقر للشفافية والرقابة الفاعلة. لذلك، لا بد من مقاربة مكافحة الفساد من داخل البلديات، باعتبارها الأقرب إلى الناس، والأسهل في المحاسبة.

آليات الإصلاح متاحة، لكن تتطلب إرادة سياسية وإدارية:

* الرقمنة كأداة للحد من الرشوة والمحسوبيات، من خلال أتمتة المعاملات وتوفير قواعد بيانات مفتوحة.
* الموازنات الشفافة التي تُعرض بشكل علني وتخضع لمساءلة المواطنين.
* مشاركة مجتمعية مؤسَّسة، تتجسد في لجان محلية تراقب الأداء وتقيّم الأولويات.

المجلس البلدي النزيه هو ذاك الذي يفتح أبوابه للمحاسبة قبل أن تُفرض عليه. الإصلاح لا يُنجز من خلال قرارات فوقية فقط، بل عبر ممارسة يومية للشفافية والمسؤولية.

**المرأة البلدية: من التمثيل إلى التأثير**

النساء اللواتي دخلن المجالس البلدية، لم يخرجن فقط من الهامش الانتخابي، بل كسرن قيدًا عمره عقود.
لكن التحدي الحقيقي لا يكمن في مجرد وجودهن داخل المجالس، بل في قدرتهم على إعادة صياغة أولويات العمل البلدي.

المرأة تحمل معها مقاربة مختلفة. في أغلب الأحيان، تكون أكثر حساسية للعدالة الاجتماعية، ولهموم الفئات المهمشة، وأكثر ميلاً للإدارة التشاركية والشفافة.
والمطلوب ليس فقط دعم النساء المنتخبات، بل توفير البيئة المؤسسية التي تُتيح لهن التأثير الفعلي في السياسات المحلية، من خلال:

* توزيع عادل للأدوار داخل المجالس، بما يضمن لهن الوصول إلى مواقع القرار الفعلي.
* برامج تدريب مستمرة في الحوكمة، التخطيط، والمالية العامة.
* إظهار النماذج الناجحة لإلهام أخريات ودفع المجتمع نحو مزيد من القبول بدور المرأة القيادي.

تمثيل المرأة في العمل البلدي ليس مكسبًا فئويًا، بل شرط لبناء مجتمع متوازن يعكس مصالح جميع مكوناته.

**البلديات كمساحة لإعادة بناء العقد الاجتماعي**

البلدية ليست مجرد إدارة محلية، بل هي نقطة تَماس مباشرة بين الدولة والمواطن.
وفي بلد يشهد تصدعًا في مفهوم الدولة، وغيابًا للثقة في المؤسسات، يمكن للبلديات أن تكون مساحة تعويض اجتماعي، تنشئ نموذجًا بديلًا في الحكم، وتعيد للمواطن الشعور بأنه ليس متروكًا لمصيره.

لبنان بحاجة إلى نموذج حكم محلي يخرج من رحم الأزمات، لكنه لا يُعيد إنتاجها. نموذج قادر على أن يقدّم حلولًا لا وعودًا، يراكم الثقة لا الإحباط، ويبني من القرية والبلدة ما فشلت الدولة في بنائه على المستوى المركزي.

**خاتمة: من المجالس البلدية تبدأ الدولة**

ما بعد الانتخابات ليس مرحلة إدارية، بل لحظة سياسية بامتياز.
إنه وقت العمل، والتخطيط، والاختبار الحقيقي للنوايا. البلديات اللبنانية قادرة – إن توفرت لها القيادة الواعية، وخاصة النسائية منها – أن تشكّل نواة التغيير الحقيقي في البلد.

في وجه الفساد واللامسؤولية، تأتي البلدية كإطار ديمقراطي عملي.
وفي وجه الذكورية السياسية، تأتي المرأة كصوتٍ للعدل والمجتمع.
ومن هذا التلاقي، قد يولد لبنان جديد، من القاعدة إلى الأعلى، من الناس إلى الدولة.

عن mcg

شاهد أيضاً

​ زغيب شارك في إجتماع رؤساء البعثات للدورة الآسيوية الشاطئية في الصين ( سانيا – 2026 )

almontasher >شارك عضو اللجنة الأولمبية اللبنانية المحاسب روكز زغيب في إجتماع رؤساء البعثات لدورة الألعاب …