يصعب لجم هذا التدهور من دون وقف هدر مقدرات الدولة وتصحيح ماليّتها
المنتشر – التأمت الجمعية العمومية السنوية العادية الثامنة والخمسون لجمعية مصارف لبنان برئاسة نائب الرئيس السيد نديم القصار لإضطرار الرئيس الدكتور سليم صفير الى التغيّب. وفي مستهل الجلسة، ألقى القصار كلمة لخّص فيها أهم منجزات مجلس الإدارة في السنة الأولى من ولايته عارضاً لأبرز التطورات الإقتصادية والمالية والمصرفية في ظلّ الأوضاع السياسية المحلية التي سادت في السنة المنصرمة.ِ
ثم ناقشت الجمعية التقرير السنوي للمجلس لعام 2019 ووافقت عليه. وبعد الإطّلاع والموافقة على تقرير مفوضي المراقبة حول حسابات الجمعية لسنة 2019، أبرأت الجمعية العمومية ذمّة مجلس الإدارة وبعد ذلك ناقشت الموازنة واقرت الموازنة التقديرية وسلّم الاشتراكات لسنة 2021.
كلمة القصار ِ
بعد ذلك تحدث القصار فقال : بإسمي الشخصي وباسم رئيس الجمعية الذي حالت ظروف شخصية دون حضوره وباسم مجلس الإدارة، أرحّب بكم في مستهلّ الجمعية العموميّة السنوية الثامنة والخمسين لجمعية مصارف لبنان. فتقرير مجلس الإدارة يعرض لأداء الجمعية ونشاطها بشكل وافٍ منذ انعقاد الجمعية العمومية الأخيرة في 29 حزيران 2019. وهو تقرير مفصّل يغطّي أنشطة الجمعية بمختلف وجوهها وأداء الإقتصاد اللبناني مع تركيز خاص على القطاع المصرفي. لذا، لن أخوض في عرض محتوياته، بل سأكتفي بإيجاز أبرز التطورات التي رافقت عملنا، وما أنجزته جمعيتُنا خلال ولاية مجلس إدارتنا الحالي.
اضاف:بعد أشهر قليلة من انتخاب مجلس إدارتنا الحالي، أخذت المحن تتوالى: اندلاع انتفاضة شعبيّة في مختلف أنحاء البلاد، مصحوبة بأعمال عنف وتعدّيات على الأملاك العامة والخاصة، بما فيها مراكز المصارف، استقالة الحكومة وانقضاء شهرين ونيّف قبل تشكيل حكومة جديدة، وانتشار وباء الكورونا في مختلف دول العالم، وانتقاله الى لبنان، مع ما خلّفه من تداعيات، بحيث شُلّت الحياة في البلاد، وتوقّف النشاط الاقتصادي في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدماتية، بما فيه حركة النقل الجوي (إغلاق المطار)
وكان من الطبيعي أن تنعكس هذه الأوضاع على الاقتصاد اللبناني الذي سجّل نمواً سلبياً للمرّة الأولى منذ سنوات طويلة ، وعلى الوضع الأمني الذي أخذ يشهد انتكاسات شبه يوميّة، وعلى أداء المصارف التي اضطرّت، بفعل ضغط الشارع وعمليات الشغب، إلى الإقفال حوالي الأسبوعَيْن ووضع قيود على التحويلات إلى الخارج وعلى السحوبات النقدية بالعملة الأجنبية، وذلك لتعذّر استعمال ودائع المصارف بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان، واخيراً لتغطية العجز في المدفوعات الخارجية.
وقال انه مع بروز أزمة سيولة حادّة وخروج المزيد من الرساميل في الفصل الأخير من العام وفي غياب عاملَيْ الثقة والاستقرار في البلد وانعكاساته السلبية على الاستهلاك والاستثمار، انخفض الطلب الإجمالي بشكل كبير وعرف لبنان في العام 2019 انكماشاً اقتصادياً حادّاً، إذ سجّل معدل نمو سلبي بواقع 7%، وانخفض الناتج المحلي الاجمالي من 58 مليار دولار إلى حوالي 49 ملياراً. وتخطى العجز في الموازنة العامة نسبة 11% من الناتج، فيما قارب العجز في الميزان الجاري 24% من الناتج. وارتفعت نسبة الدين العام إلى الناتج إلى حوالي 178% وسجّل ميزان المدفوعات عجزا بقيمة 5,85 مليارات دولار.
واشار الى ان الوضع الاقتصادي والمالي الصعب انسحب على النصف الأول من العام 2020. اذ ان توقّعات صندوق النقد الدولي تشير إلى نمو اقتصادي سلبيّ بمعدل 12% في العام 2020، وهو الأسوأ منذ الحرب اللبنانية إذ بلغ عجز ميزان المدفوعات 2,2 مليار دولار في الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري.
واوضح انه في شهر آذار 2020 وبتطور كارثي ثانٍ ، قرّرت الحكومة اللبنانية تعليق ومن ثمّ التوقّف عن دفع سندات اليوروبوندز بداعي الحفاظ على احتياطي العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان. وبدل أن تجري محادثات بحسن نيّة مع دائنيها لإعادة جدولة السندات وتخفيض كلفتها، وضعت خطة أسمتها ” للتعافي الإقتصادي”. وشكّلت هذه الخطة الكارثة الثالثة بعد الكورونا والتوقف عن الدفع. وقد بنت الحكومة هذه الخطة بشكل اساسي على اقتطاع كامل رساميل المصارف وجزء هام من ودائع الناس. إذ كيف يمكن إجراء اقتطاع (Haircut) بقيمة 69 مليار دولار أو 241 ألف مليار ليرة لبنانية دون التعرّض للودائع؟!
وكما بات واضحاً، قال القصار فقد قضى حلّ الحكومة بإلغاء كلّ ديون الدولة وتصفيرها بشحطة قلمٍ وفي يومٍ واحدٍ مقابل تحميلها للمصارف ولمصرف لبنان عبر إظهارها خسائر في ميزانيّات المصارف والمصرف المركزي، ما قد يمهّد لوضع اليد على القطاع المصرفي القائم واستبداله بحسب ما يتمّ تداوله بخمسة مصارف ستتحكّم بملكيّتها وإداراتها.
ويُسجَّل على خطة الحكومة أيضاً أنها لا تُعالج جذور الأزمة المتمثّلة بالضعف المزمن لإنتاجية الاقتصاد اللبناني وغياب النمو وفرص العمل واستشراء الفساد ونهب مقدّرات البلد وإهدار إمكاناته وإضعاف الدولة وتغييبها عن أداء وظائفها الأساسيّة، ما أدّى كلّه إلى إنهاك البلد مالياً كما تُظهره العجوزات المتراكمة في المالية العامة وفي المدفوعات الخارجية.
وفي المقابل، دعت ورقة جمعيتنا كل الأطراف إلى التعاون وتحمّل المسؤولية وتبعاتها وتضمّنت توجّهات أو محاور عدّة. أوّلاً، إعادة هيكلة للدين العام تخفّف ما أمكن من الانعكاسات السلبيّة على المودعين وعلى الاقتصاد ككلّ، وتتجنّب التوقّف عن الدفع الداخلي. ثانياً، إنشاء صندوق (GDDF) يحفظ ملكية الدولة الكاملة لأصولها ويسمح من خلال تخصيص جزء من مداخيل الصندوق لمصرف لبنان بأن يشطب الأخير ديونه على الدولة. كما تقترح ورقة الجمعيّة أن تتفاوض المصارف مع الدولة لإعادة جدولة ديون المصارف لناحية إطالة آجال القروض وتخفيض مردودها بحيث تتراجع نسبة الدين إلى الناتج من المستوى الحالي البالغ 178% إلى 74% مع حلول العام 2030 دون أيّ اقتطاع (Haircut) على الديون وعلى الودائع. ثالثاً، تصحيح مالي يُنتج فائضاً أوّلياً معقولاً قدره 2,1% بدلاً من 4,8% من الناتج. وتقترح الجمعية إنشاء شبكة أمان اجتماعي لا تقلّ عن 4% من الناتج المحلّي الإجمالي خلال كامل فترة التصحيح المالي. رابعاً، اعتماد سياسة نقدية قائمة على توحيد سعر الصرف بحيث يُصحِّح بتدرّج مدروس الاختلالات الخارجية وبحيث يضبط الضغوطات التضخمية القوية جداً. خامساً، إعادة هيكلة منظَّمة للمصارف، مصرفاً مصرفاً، تديرها السلطات النقدية والرقابية – وليس أجهزة الدولة -عملاً بقانون النقد والتسليف، مع اعتماد المعايير المصرفية الدولية وضمن حيّز زمني كافٍ تسمح به اتفاقيات بازل. سادساً، تنويع الاقتصاد اللبناني وإعادة هيكلته بما فيه الإصلاحات البنيوية في أدائه كمحاربة الفساد المستشري، وتخفيض كلفة الأعمال في لبنان، بالإضافة إلى سياسات تخفّض حجم الأنشطة الاقتصادية الموازية وغير المرخّصة وما إليها.
وتابع القصار إزاء التباعد الشديد بين مقاربة الحكومة ومقاربة الجمعية، وما تركه من تأثير سلبي على المفاوضات الرسمية مع صندوق النقد الدولي، بادرت لجنة المال والموازنة النيابية، بتوافقٍ من معظم الكتل النيابيّة ومن رئاسة المجلس، الى عقد سلسلة اجتماعات لممثّلي مختلف الأطراف المعنيّة سعياً الى توحيد المقاربات والى التوافق على أفضل المخارج الممكنة. ولا شكّ في أن تسلّم السلطة التشريعية لهذا الملف عزّز الآمال بالتوصّل الى تصوّر مشترك لحلول مجدية.
وعلى صعيد آخر، فإن سياسة تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي المتّبعة منذ العام 1999، والتي قرّرتها السلطات اللبنانية وأكّدتها الحكومات المتتالية في بياناتها الوزارية ونالت على أساسها الثقة، قد وصلت إلى حدودها القصوى بحيث لم تعد قابلة للإستمرار في ظلّ تباطؤ دخول الرساميل إلى البلد وغياب السياسات والعوامل المُساعدة الأخرى. فشهدت الأوضاع النقدية تدهوراً واضحاً ومتسارعاً منذ الفصل الأخير من العام 2019 ولا تزال. على الجهاز المصرفي اتّخاذ إجراءات ضرورية للمصلحة العامة تمثّلت بالحدّ من التحويلات التجارية وغير التجارية إلى الخارج ووضع سقوف على السحوبات النقدية، لا سيّما بالدولار. وحالت إجراءاتنا دون الاستنزاف الواسع والسريع لودائع العملات الأجنبية. ويصعب لجم هذا التدهور دون وقف هدر مقدرات الدولة وتصحيح ماليّتها بحيث تعود الثقة بالبلد وبالليرة وبالمصارف.
اما على صعيد قضايانا المهنية وباختصار قاتلنا بشراسة لإبعاد مبدأ الاقتطاع (الهيركات) فلا يظل هذا السيف مُصلتاً على رقابنا و رقاب المودعين ؟ فكيف نعيد تكوين رساميلنا وكيف ندعو المستثمرين الى المساهمة إذا بَقيَ الهيركات مطروحاً؟ وعليه فقد دعونا جميع المسؤولين كي يكفّوا عن مقارباتهم العقيمة والخطرة، وأن نجد معاً المعالجات المجدية. ونحن نثابرعلى هذا المنحى ونأمل وقف المغامرات المؤذية واعتماد خارطة طريق موثوقة تتمثّل بدايةً في استعادة موقع لبنان الإقتصادي على خريطة المنطقة وإعادة علاقاته مع محيطه العربي الى زخمها المعهود، وتعزيز علاقاته مع مختلف الأسواق الإقليمية والدولية، لاستقطاب الموارد الخارجية والاستثمارات الأجنبية، كما تتمثّل ثانياً في معالجة مكامن الهدر في المال العام، ومكافحة الفساد المستشري في مختلف هيكليّات الدولة، وتحديث أداء الإدارة العامة، وتفعيل إنتاجية المرافق العامة، وتحسين جودة وكلفة الخدمات المقدّمة للمواطن وتطوير البنى التحتية الأساسيّة ، وحماية حقوق المستهلك، وتتمثّل ثالثاً في تعزيز القدرة التنافسية للصناعة اللبنانية والحفاظ على الطبقة المتوسطة كنواةٍ صلبة للنمو المطّرد. وتأمل الجمعية أن تحتلّ هذه السياسات الإصلاحيّة حيّزاً محورياً في اهتمامات الحكومة بحيث يحرص أصحاب القرار السياسي على عدم تفويت المزيد من الفرص وعدم تسجيل المزيد من التأخّر في تحقيق مؤشّرات النمو الممكنة، وفي بلورة الآفاق المستقبلية الواعدة لجيل الشباب اللبناني.
لقد حرصنا، كمجلس إدارة، على تسيير أعمال الجمعية وتكثيف التشاور بين كافة أعضاء الأسرة المصرفية في أصعب لا بل أخطر الظروف، خصوصاً وأن التواجد في مقـرّ الجمعية بوسط بيروت بات متعذّراً منذ أشهر لأسباب أمنية ومن ثم صحية، ما حدا بمجلس الإدارة على عقد اجتماعات نقّالة وبوتيرة يومية أحياناً كما على الدعوة الى جمعيات عمومية متعدّدة، حرصاً على استمرار التواصل والتشاور فيما بين أعضائه من جهة، ومع إدارات المصارف، من جهة أخرى. وفي عــزّ الأزمة، لم تتوانَ الجمعية عن إصدار بيانات صحافية بوتيرة شبه يومية أيضاً لإعلام الجمهور والموظفين والرأي العام بمختلف القرارات التي تتّخذها، سواء لتسيير الأعمال أم لتلبية حاجات الزبائن أم لتوضيح مواقفها من التطورات الجارية.
وإننا، إذ نتطلّع الى المستقبل بأمل ورجاء، لا يسعنا سوى الإقرار بواقعيةٍ وموضوعية بأن لبنان يعيش اليوم إحدى أقسى المحن في تاريخه المعاصر، وكذلك قطاعه المصرفي. لكننا على يقين من أن مواجهة هذه المحنة بروح تضامنية وبحسّ المسؤولية الوطنية كفيلة بتيسير دروب الإنقاذ الآمنة.
أخيراً، لا يسعني غير أن أوجّه تحيّة تقدير الى جميع زملائي رئيس وأعضاء مجلس الإدارة الذين شكّلوا فريق عمل واحداً ومتجانساً طوال ولاية المجلس، وكرّسوا الكثير من جهدهم ووقتهم في خدمة الأسرة المصرفية، كما أنوّه باسم المجلس وباسمكم جميعاً، إذا سمحتم، بالأمين العام وسائر كوادر وموظفي الأمانة العامة الذين مكّننا تفانيهم المهني من تأدية مهامنا على المستوى المطلوب.