كم أفتخرُ بأنني بعلبكي، كم أفتخرُ بأنني جزءٌ لا یُرى بالعین المجردة من ذاك العبقِ الأنیق، وتلك السیرةِ المسكوبةِ ألقاً ومجداً لمدینةٍ تبنّتھا الشمسُ، فصقلتھا بأشعتھا وصاغتھا أجملَ دررِ الأرضِ وأندرَھا.
وعراقةُ بعلبك لم تكن یوماً من معابدھا الرومانیةِ فقط، بل من عظمائھا أیضاً الذین تألقوا عِلماً، ألقاً وألمعیةً، لیشكلوا أعمدةً بشریةً تحاكي السماءَ، وترصفُ النجومَ، وتكتبُ صفحاتِ التاریخِ المخملي.
د. سلیم حیدر، شعاعٌ ماسيٌّ من مدینةِ الآلھة، أضاءَ عالماً بأكمله بكلِّ ألوانِ الطیف. لقد تنزهَ في حُزَمِ الضوءِ والشواردِ. برعَ في الحفرِ والسبكِ الملازمَین للمنطقِ والتحشیدِ المعرفي. كوَّمَ في حیاته أرصدةً علمیةً، سیاسیةً وأدبیةً، شھَقَ برفعةٍ وتواضعٍ جليٍّ في آنٍ. كان متألقاً رزیناً، طویلَ الأناةِ، مجتھداً متبحّراً، ولغویّاً متمرساً، ممسوساً بالضبطِ والإحكامِ والعنایةِ في أغوارِ العلمِ والأدبِ والسیاسةِ ولُججھا.
لیسَ سھلاً على یراعٍ حبیسٍ في قفصِ الدھشةِ أن یكتبَ أو یتحدثَ من على منبرٍ عن عملاقِ بعلبك، لبنان والعالم. وإن كانت ذاكرتي وأنا إبن مدینةِ الشمس، ألِفت المحتفى به إسماً یغورُ في أعماقھا منذ زمنِ الطفولةِ، إسماً یرددهُ كبارُ السیاسةِ والعلمِ والأدب في كلِّ أروقةِ الرقيِّ وأماكن الإبداع. ولا أبالغُ إن قلتُ أن سیرةَ الراحل لا تزالُ بعد أكثرِ من عقود، طریّةً نضِرةً، تلھجُ بھا ألسنةُ القلوبِ وتحفظھا العامةُ قبل الخاصة في مجتمعٍ یعشقُ سلیم حیدر وسیرتَه. في الغیابِ لا مكانَ لحضورِ الكلمات… سلیم حیدر رائعٌ من مدینتي، قلمٌ شلالٌ تلینُ الصخورُ تحت انسیابِ معانیه، وتنحني الریحُ أمام ملامستھا للجوھرِ والمضمون. مرَّ التاریخُ وعبرَ الآخرون إلى غایاتھم. أما أنت فمررت وانغرستَ أبعدَ من الجذرِ في الأرضِ وأقربَ من عشقِ البحرِ للمدِّ، فامتدادُكَ واسعُ الخطوات، وسیرتُك تتجاوزُ حدودَ الأفق لتبقى راسخةً في فضاءاتِ الذاكرة.
لن أُطیلَ في شرحِ سیرتك، ففي الإطالةِ مللٌ لا یلیقُ له التمدد أمام ما خطّت یداكَ، صاغَ عقلك وتألقت مناصبك.
وُلد الراحل في مدینة الشمس ودرس فیھا، إنتقل بعد ذلك لیدرسُ في الجامعةِ الوطنیةِ بعالیه، ثم في معھد اللاییك ببیروت. حازَ إجازةً في الآداب، وشھادةَ الدبلوم في العلمِ الجنائي والعلوم السیاسیة وعلم الإجتماع وعلم النفس. وحازَ أیضاً على شھادة الدكتوراه في الحقوق من جامعات باریس ومونبلییه. عُیِّنَ قاضیاً وسفیراً فوق العادة في إیران وأفغانستان والمغرب والإتحاد السوفیاتي، ثم وزیراً في ثلاث حكومات
متتالیة من العام ١٩٥٢ حتى ١٩٥٥، وانتخبَ نائباً عن البقاع في دورتي ١٩٥٣ و ١٩٦٨، وكان لغويَّ المجلس النیابي وأدیبَهُ وممثلَهُ في المناسبات العامةِ والخاصة. مُنِحَ أھمَّ الأوسمة الرسمیةِ والفكریةِ. كتب الشعرَ والنثرَ والسیاسةَ، شاركَ في مؤتمراتٍ وألقى محاضراتِ كثیرةٍ في مواضیع متشعبةِ تشمل نواحي السیاسة والأدب والتربیة والدین والفلسفة. إمتاز سلیم حیدر بعلمه وثقافته، إذ جمعَ في شخصه رھافةَ
الشاعر ورقةَ الأدیب إلى لباقةِ الدبلوماسي وحزمِ رجلِ القضاء.
ومما لاشك فیه أن ھذه الفرادة أغنت تجربته الشعریة ورفدتھا بروافد العلم وسعة المعرفة.
كان الدكتور حیدر مقتنعاً بأن الإنتاجَ الأدبي، وخاصة الشعر یمثلُ أعلى قمم الفن، وقد ترك للمكتبةِ العربیةِ والثقافةِ العالمیةِ تراثاً ضخماً وإرثاً غنیاً في مجالات العلمِ والأدب.