في أوكرانيا، سقط النقاب عن وجه الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة. بسيناريو طويل كتب على مدار ثلاثة عقود، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وأفول حلف وارسو الذي تأسّس على يد موسكو عام 1955، رداً على الحلف الأطلسي الذي أنشئ عام 1949، وما رافق الحلفان من حرب باردة.
واشنطن وبدلاً من أن تنظر الى المتغيّرات الدولية بنظرة إيجابية، وتبدأ بتأسيس علاقات طيبة متميّزة جديدة، مبنية على الثقة، مع دولة عظمى لها مكانتها الحضارية، والاستراتيجية، والجيوسياسية، والجغرافية، والتاريخية، والعسكرية، وجد العالم، انّ الولايات المتحدة تجاهلت كلّ ذلك، مُصرّة على اتباع سياسة العنجهية، والتسلط، وتوسيع دائرة نفوذها، وهي تتصرف وتتعاطى مع روسيا ودول العالم.
انتهزت واشنطن فرصة ترنّح عدوّها اللدود، لتنصّب نفسها القوة الأحادية المرهوبة الجانب، والقطب الأوحد دون منازع، الذي تقع على عاتقه مهمة قيادة العالم.
لم تكتف الولايات المتحدة بانهيار الاتحاد السوفياتي، وحلف وارسو، ولا بانتهاء الحرب الباردة بين القطبين، بل على العكس أرادت تعزيز الحلف الأطلسي، وتوسيع دائرة جعرافيته في شرق أوروبا، ليلامس خاصرة روسيا، مهدّداً أمنها القومي في الوقت الذي كانت فيه روسيا تعاني ظروفاً استثنائية في غاية الصعوبة، وتتخبّط في مشاكلها الاقتصادية، والمعيشية، والإدارية، نتيجة انتقالها من الاقتصاد الموجّه، الى الاقتصاد الحر.
أمام هذا الواقع الصعب، كانت نوايا واشنطن المبيّتة، وغير البريئة، تهدف في الأساس، إلى تطويق روسيا وشل حركتها، ودورها، وقدرتها، وتحجيمها على الساحة الدولية.
حاولت الولايات المتحدة عام 2008 دق إسفين في الخاصرة الجنوبية لروسيا في جورجيا عام 2008، فكان الردّ الروسي حاسماً وصارماً في أبخازيا وأوسيتيا.
لم تتوقف واشنطن بعد ذلك، عن سياساتها العدائية ضدّ روسيا، حيث كانت أوكرانيا، بعد جورجيا، الكبش والأداة التي أرادت بها واشنطن أن تكون خنجراً دائماً في جسد روسيا وأمنها القومي.
كان في اعتقاد الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة،
انّ ضمّ أوكرانيا الى الاتحاد، ومن ثم الى حلفهما الأطلسي، سيحقق لهما إنجازاً استراتيجياً تاريخياً يكبّل روسيا، ويضع حداً لها، ويهمّشها على الساحة الدولية
ويطوّقها، ويطال في الصميم أمنها القومي في عقر دارها. وهذا ما سيجعلها في نهاية الأمر ترضخ للأمر الواقع الذي تريد واشنطن أن تفرضه عليها.
لقد قدّر لروسيا ان يكون على رأسها، زعيم استثنائي، بإرادة فولاذية، يتابع بحسّه الاستخباري ـ وهو الخبير فيه ـ وبكلّ دقة، الى ما يبيّته ويحضّره الغرب لبلده.
كان بوتين منذ اللحظة الأولى، يتابع ممارسات وسلوك وأهداف واشنطن والاتحاد الأوروبي في أوكرانيا، ويرصد منذ عام 2008 الأحداث والتطورات فيها، والسياسات العدائية المتهوّرة التي يمارسها النظام الأوكراني دون ضوابط او محاذير ضدّ روسيا، مدعوماً من الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي. هذا ما دفع في نهاية المطاف، الرئيس الروسي، الى ان يضع حداً نهائياً للممارسات الاستفزازية لكييف ورئيسها زيلينسكي، وأيضاً للنهج والسلوك العدائي للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على السواء تجاه موسكو.
روسيا منذ عام 2014، تراقب باهتمام كبير، وتتابع بكلّ دقة تطورات الأوضاع في أوكرانيا بعد حكم يانوكوفيتش، واستفحال الأمور، حيث لا أحد في الغرب يريد ان يسمع صوت روسيا، وما تمثله أوكرانيا لها من أهمية لأمنها القومي، ومكانة جيوسياسية بالغة الاعتبار، ومجال استراتيجي حيوي لا يمكن المساومة عليه.
إنّ تمادي أوكرانيا في تجاوزاتها، وتجاهل رئيسها زيلينسكي للمطالب الروسية، وعدم التزام أوكرانيا ببروتوكول مينسك لعام 2014، وتطبيقها له نصاً وروحاً، جعل موسكو تنبّه، تحذر، تتوعّد، تهدّد، وترفع نبرة صوتها عالياً دون ان يلقى صدى أو اهتماماً، أو تجاوباً من قبل النظام في كييف.
تجاهل القيادة السياسية الأوكرانية منذ عام 2014، لاتفاق كييف، وهواجس ومخاوف وتحذيرات موسكو من تطورات الأحداث الجارية في أوكرانيا، كان متعمّداً، يستند الى الدعم والتأييد والغطاء السياسي الذي توفره الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي للنظام.
لفد توهّم الرئيس الأوكراني زيلينسكي انّ الغرب بدوله، وبالذات الحلف الأطلسي سيوفر له الحماية الكاملة،
والدعم المطلوب حتى النهاية، وهو يخوض معركته السياسية والأمنية والعسكرية مع موسكو. فإذا به يتفاجأ، ليقول في خطاب له يوم 26 شباط، نشر على موقع الرئاسة الأوكرانية: “لقد تركنا وحدنا للدفاع عن بلدنا… من هو مستعدّ للقتال معنا؟ لا أرى أحدأ.”
أراد الرئيس زيلينسكي، قبل العملية العسكرية الروسية، أن يهيّئ أوكرانيا للدخول الى الاتحاد الأوروبي، ومن ثم إلى الحلف الأطلسي، ليضع روسيا بعد ذلك أمام الأمر الواقع، ظناً منه أنّ الاتحاد الأوروبي وحلفه العسكري لن يسمحا لموسكو بعد ذلك للتقدم باتجاه أوكرانيا، او النيل منها.
جاء قرار بوتين، ليقول للعالم كله، إنّ الأمن القومي لروسيا، فوق كلّ اعتبار، ولا يمكن التفريط به، أو المساومة عليه مهما كان الثمن غالياً. لذلك، لجأ الى مواجهة النظام الأوكراني في عقر داره، متحدياً واشنطن والاتحاد الأوروبي، والحلف الأطلسي برمّته، ووضعهم أمام مسؤوليتهم، وأمام سياساتهم المعادية.
عمليات عسكرية قيصرية، موضعية، كان لا بدّ لموسكو من إجرائها بعد ان استفحلت الأمور بشكل لم يعد بمقدور روسيا أن تتحمّلها وتطيقها، أو تغضّ الطرف عنها.
أوكرانيا كانت كبش فداء على الساحة الدولية، حيث دفعها الغرب وجعلها رأس الحربة ثم خذلها، وتركها لقدرها تتخبّط، لتلقى مصيرها وحدها وتتحمّل تبعات الحرب، لا معين او منقذ لها كما كان يتصوّر رئيسها المغفل، وإنْ زوّده الغرب بالمساعدات المختلفة، التي لا ترتقي الى مستوى الأحداث والتطورات الدراماتيكية التي تشهدها أوكرانيا، ولن تغيّر من موازين القوى العسكرية للبلدين.
كانت حسابات زيلينسكي، مغايرة لحسابات واشنطن والاتحاد الأوروبي وحلفهما العسكري، وتقييمه للأمور، تختلف عن تقييم الولايات المتحدة وأوروبا، لأنّ مشاركة هؤلاء مباشرة في العمليات الحربية ضدّ روسيا كما كان يتصوّر، يعني اندلاع حرب مكشوفة، ومواجهة مدمّرة واسعة النطاق بين الغرب وروسيا، وهم لا يستطيعون خوضها كرمى لعيون أوكرانيا، لا سيما أنّ زعيم الكرملين، اتخذ قراره حتى النهاية، ولا رجوع عنه، الى أن يتحقق ما يريده لأمن روسيا وسيادتها، ووحدة أراضيها، وسلامة شعبها.
أوكرانيا كانت درساً وعبرة لكلّ الذين يعوّلون على الولايات المتحدة، حيث لم تكن سياسات واشنطن يوماً، وعلى مدار أكثر من قرنين، لتأخذ بالاعتبار مصالح الشعوب كما يتصوّر الحمقى والمغفلون. هذه الامبراطورية، وريثة الاستعمار بقناع مستعار، لا ترى إلا بعيون مصالحها، وهي في كلّ وقت على استعداد أن تخذل قادة وزعماء، وتبيد شعوباً، وتدمّر دولاً دون أن يوخزها ضمير ـ وما أكثر الأمثلة على ذلك ـ من أجل الحفاظ على هيمنتها، ونفوذها.
بوتين سدّد ضربته، واضعاً أوروبا وأميركا وحلفهما العسكري أمام تحدّ كبير، ليقول للعالم كله، انّ زمن تفرّد واشنطن بالقرار الدولي قد ولّى. وانّ الأحادية القطبية، والزعامة العالمية التي فرضتها على العالم لوقت، قد انتهت الى غير رجعة، بعد ثلاثة عقود، من الاستفراد بالقرار الدولي الأوحد، وممارستها له بأبشع صوره.
تاريخ جديد في العلاقات السياسية الدولية بدأ يسطر، وهو يشهد قوى عالمية كبرى تشق طريقها بكلّ قوة، وتثبت مواقعها بكلّ جدارة على الخريطة العالمية.
بوتين بقراره الحاسم وضع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أمام الأمر الواقع، يخيّرهما بين إثنين: إما القبول بعملية جراحية موضعية في أوكرانيا، لاستئصال الورم الذي يهدّد أمن وسيادة روسيا، وإما اللجوء الى حرب عالمية شاملة مدمّرة.
ما تريده موسكو، هو تحييد أوكرانيا، وتفعيل اتفاق مينسك، وإبعادها بصورة نهائية عن الحلف الأطلسي، وتفكيك الفصائل النازية التي غذاها ورعاها الناتو، وارتكبت الجرائم في المناطق التي يسكنها روس، لا سيما في لوغانسك ودونيتسك، وغيرها من أقاليم أوكرانيا، وأيضاً تفكيك المختبرات البيولوجية، والبكتريولوجية على الأراضي الأوكرانية المموّلة من معاهد غربية، أميركية وأوروبية معروفة.
بين الخيارين، ما على الغرب إلا أن يختار الأول، وهو الأسلم له، وللعالم كله، بعد أن سدّد بوتين ضربته، التي لن يتراجع عنها مهما فعلت واشنطن وحلفها الأطلسي، وحشدت العالم وجيّشته ضدّ روسيا وقيصرها، وقبل أن يحقق أهداف العملية الجراحية في خاصرته الأوكرانية، واستئصال الورم منها بصورة نهائية!
لم تعد الولايات المتحدة تستفرد بالقرار العالمي، فهناك على الساحة الدولية اليوم، أكثر من دولة تقف في وجهها، لتضع نهاية لأحاديتها القطبية. وما أوكرانيا الا المثل، والتطبيق في الميدان…