ضمن سلسلة من الندوات حول موضوع اللامركزية الإدارية، نظمت جامعة الروح القدس- الكسليك أول ندوة شبكية بعنوان “اللامركزية المالية: بين الواقع والتطبيق”، عبر تطبيقMicrosoft Teams ، شارك فيها نائب رئيس الحكومة السابق غسان حاصباني، رئيس لجنة المال والموازنة النيابية النائب ابراهيم كنعان والمدير العام للإدارات والمجالس المحلية أحمد رجب، وأدار النقاش الصحافي داني حداد.
لمحة عامة
يمثل مبدأ اللامركزية الإدارية الموسعة ركيزة دستورية تم اعتمادها في اتفاق الطائف، الذي، بدوره، اعتبر أنّ تطبيق هذا المبدأ هو إحدى أهم الإصلاحات. أما اليوم، وبعد أكثر من عقدين على إقرار “وثيقة الوفاق الوطني” التي عرفت باتفاق الطائف، فإنّ مشروع اللامركزية الإدارية قد بقي حبراً على ورق بالرغم من وعود الحكومات المتعاقبة ومشاريع القوانين التي قدمت في هذا الشأن. وانطلاقاً مما سبق، أولت جامعة الروح القدس- الكسليك أهمية كبيرة لهذا الموضوع حيث بادرت منذ العام 2016 إلى تشكيل لجنة خاصة تضم خبراء واختصاصيين وقانونيين، عملت على إعداد مشروع خاص باللامركزية الإدارية في لبنان. إذ يتركز عمل هذه اللجنة على نشر الوعي حول موضوع اللامركزية وإيجاد بعض الإجابات على الأسئلة التقنية والقانونية، وذلك من خلال سلسلة من الاجتماعات الشبكية.
حداد
بداية، كانت كلمة لحداد أكد فيها “أنّ هذه الندوة تفتح باباً للنقاش العميق وطرح الحلول والمعوقات، خصوصاً أنّ كثيرين ينظرون الى اللامركزيّة كمدخل لإيجاد حلول لأزمات عدّة يعاني منها لبنان”. ثم أدار النقاش معطياً الكلام للمشاركين.
حاصباني
وأشار نائب رئيس الحكومة السابق غسان حاصباني إلى أنّ “اللامركزية الإدارية هي عمل إداري يشكل جزءاً من تنظيم عمل القطاع العام الذي يؤدي إلى فعالية إدارية أكبر. نتحدث هنا عن حوكمة إدارية وليس سياسية لطريقة التعاطي على مستوى أضيق من المستوى الشامل للبلد. وتعني اللامركزية الإدارية تحسين الإدارة من ناحية القطاع العام، وتفاعل السلطات المحلية مع المواطنين بالاحتكاك المباشر وتخفيف مركزية القرارات الإدارية والمعاملات وعناء المواطنين، إضافة إلى إعطاء السلطات المحلية هامش من الحرية في التصرف والقرار من الناحية الإدارية والمالية والتنظيمية، يخولها أن تتفاعل مع بيئتها وتتنافس فيما بينها بطريقة إيجابية. فممكن أن تكون اللامركزية الإدارية أحد الحلول الشاملة لأزمات سياسية ومالية واقتصادية”.
وتابع بالقول: “لا مانع من تطبيق هذا المبدأ في لبنان عبر اعتماد المبادئ العامة للامركزية الإدارية مع احترام الحيثيات المحلية. إنّ الحديث عن نظام مالي في ظل اللامركزية الإدارية يحتاج إلى تعديل جذري في النظام الضريبي كي يسمح بجباية الضرائب ذات الطابع المحلي. ومن شأن هذه الجباية أن تعكس الحركة الاقتصادية في كل نطاق محلي وتغذي الخزينة المحلية وتساهم في تمويل الأنشطة الاستثمارية بهامش حرية يتيح اتخاذ القرارات وتنفيذ المشاريع ضمن الخطط الوطنية الشاملة وتعزيز التنافس بين المناطق لاستقطاب استثمارات أكبر”.
واعتبر أنّ “أكثر ما يسهل تطبيق اللامركزية هو السماح للبلديات بالقيام بمشاريع منتجة بالشراكة مع القطاع الخاص بهدف التعويض عن تقصير الدولة المركزية إلا أنّ القانون لا يسمح بذلك. من هنا، لابد من سن قوانين جديدة أو تعديل القديمة لتوسيع نطاق العمل البلدي. تكمن الإشكالية إذاً في المشاريع التطويرية التي تحتاج إلى الاستثمار ولكن حجم البلديات الصغير في لبنان يحول دون ذلك، كما وأن معظم البلديات لا تملك القدرة على الانفاق المالي ولا على تخطيط المشاريع وتنفيذها. يضاف إلى ذلك اعتماد التشريع المركزي الإطاري الذي يسمح للسلطات المحلية باصدار قرارات تنفيذية وعملية تسهل جباية أموال أكثر وتنفيذ مشاريع أكبر واصدار قرارات تنظيمية داخل النطاق المحلي. وهنا، أشدد على أهمية النظام الرقابي كي لا يصار إلى تحويل الفساد المركزي إلى فساد لامركزي. إنّ تكبير حجم السلطات المحلية مهم لتخفيف أثر الثقافة العائلية التي تتحكم بالانتخابات البلدية وإعلاء شأن المسؤولية والرقابة بغية تحسين أداء السلطة المركزية الأمر الذي يمهّد إلى تطبيق اللامركزية مع الإبقاء على دور البلديات تحت نطاق السلطة المحلية الواسعة”.
كما أوضح أنّ “اللامركزية الإدارية لا تعني اللامركزية أو الفيدرالية الطائفية، بل هي لامركزية إدارية بحسب توزيع جغرافي معين، ترعى الهامش الواسع بالتصرف المحلي بحسب القانون، الذي يراعي بدوره الثقافات المتعددة ضمن النطاق الجغرافي. وتُعتبر اللامركزية المالية جزءاً أساسياً من تطوير الحوكمة التي نطمح إلى تطبيقها في المستقبل. وتتمثل الخطوة الأولى نحو اللامركزية بتطبيق ما تم الاتفاق عليه بالوفاق الوطني وترجمته إلى قانون ثم تطويره بعد النظر بالدروس المستقاة من التطبيق، وذلك كي لا نبدأ بهذا الموضوع بطريقة عشوائية تزيد الأمور سوءاً”.
كنعان
واعتبر كنعان أن “نية عدم تطبيق اللامركزية موجودة. فأين اللامركزية الادارية الموسعة بعد ٣١ سنة على اتفاق الطائف ؟ فهل هو لائحة طعام يأخذ البعض منه ما يرغب كصلاحيات رئاسة الجمهورية والديموقراطية التوافقية والحكم بثلاثة رؤوس، وتترك الاصلاحات البنيوية حبراً على ورق؟!”.
واعتبر أنه “بعد اقرار قانوني الانتخابات واستعادة الجنسية المتحدرين من أصل لبناني ، لا شيء اهم من اللامركزية الادارية والمالية الموسعة التي تحلّ مشاكل كبيرة في الاقتصاد والانماء والخدمات الاجتماعية”.
وشدد على أن “الشعب هو الرقيب الفعلي لتغيير السلطة التي لا تعمل في الشكل المطلوب وفي السلطات المحلية الرقابة والمحاسبة تكون افعل”، مشيراً الى أن “التجدد بالثقافة والتطور وادارة الكيانات المحلية لا الاشخاص فقط، هو الاساس، من خلال المحاسبة التي تتأمن يوم الانتخاب”.
واضاف “من الخطورة ربط اللامركزية الادارية الموسعة بتطور المجتمع، فالقرار متخذ في اتفاق الطائف، والمطلوب تطبيق القانون وتجربته، والحكم عليه، لأن اللامركزية يمكن ان تشكّل “دفشة” نحو الأمام لتحميل المجتمعات المحلية مسؤولية المشريع والتطوير، وفق ضوابط محددة، فتزداد مسؤولية المواطن في القرار والمحاسبة، ولا يبقى العمل السياسي تنافس سلطة وصراع سلطة من دون افق لتطوير المجتمع وادارة الشأن العام”.
واشار الى أنه “لا يمكن ارساء اللامركزية الادارية من دون لامركزية مالية، خصوصاً أننا مع اللامركزية نكون أمام كيانات مستقلة وموحدة ضمن الدولة الواحدة، وهو ما يستدعي تعزيز دور وصلاحيات البلديات لتتأمّن الايرادات المالية لانجاز المشاريع التي ترغب المناطق بالقيام بها من دون عوائق بيروقراطية تمنع تنفيذها”.
واوضح كنعان أن “اللامركزية ليست عملية تفضيل او تمييز بين المناطق بل هو خلق حالة تنافسية بين المناطق من جهة، وعوامل تفاضل وخصوصية من جهة أخرى، تبعاً للامكانيات والجغرافية وسواها من عوامل كل منطقة”.
ولفت الى أن “مليارات الدولارات من عائدات الاتصالات لم تصل الى البلديات كما ينص القانون وقد تمت استباحة حقوق البلديات وموّل بها عجز وزارة المالية، وجرى صرف الأموال في اماكن أخرى، اضافة الى ان البلديات حصلت مؤخراً على مستحقاتها عن العام 2018، وبقي لها في ذمة الدولة المليارات عن السنوات الماضية”، وقال “المطلوب تطور نوعي بعمل المجالس المحلية وأن يعطى الهم اللامركزي لأربابه وناسه ليفكروا وينتجوا، على غرار معالجة أزمة النفايات التي باتت قضية مركزية فشلت الدولة المركزية فشلاً ذريعاً في معالجتها. وعندما يصبح الهم اللامركزي ضمن القطاعات المحلية والاقليمية يمكن وضع الخطط وتنفيذها، لاسيما أن ملائكة شركات النفايات كانت حاضرة في الحكومات المتعاقبة”.
واعتبر أن “هناك خلطاً في لبنان بين الفيديرالية واللاحصرية واللامركزية. فالفيديرالية هي النظام الاساسي والدستور، واللاحصرية هي التنظيم الداخلي للادارات. والمهم ان نجد نظاماً يناسب مجتمعنا التعددي ويناسب بلدنا، فاذا لم نتوافق على النظام، نصبح امام دويلات ضمن دولة واحدة”.
واشار الى أن “المجتمع يتحوّل في الكوارث الى حالة تضامنية وهو ما نقوم به في هذه الفترة. وأدعو كل انسان، اكان مسؤولاً او نائباً او ناشطاً في المجتمع، للتعاون في ضوء انهيار المجتمع، مع أزمة الكورونا والأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية، لتعويض تقصير الدولة التراكمي. وعلى سبيل المثال، فالدولة كانت مقصرة في دعم المستشفيات الحكومية والمدارس الحكومية والمستوصفات الحكومية، لتأمين الخدمة الصحية الدائمة، وبكلفة اقل من التي يتكبدها المواطن في المستشفيات الخاصة. وهو ما دفعنا الى العمل مع بداية أزمة الكورونا على تأمين الدعم لمستشفى ضهر الباشق الحكومي في المتن الشمالي، لتأمين الطبابة والاستشفاء لأهلنا في المتن، واستحداث قسم للكورونا يضم عناية فائقة خاصة، بالاضافة الى تعزيز جهوزيته لغسيل الكلى”.
ورداً على سؤال من اين يجب ان تبدأ البلديات؟ قال كنعان “هناك مسؤولية على المجلس النيابي في اقرار قانون اللامركزية الادارية اولاً، والتعاون على تعزيز دور البلديات وتحضيرها وتثقيفها ومساعدتها على طرح المشاريع والتحضير لها وتنفيذها”.
رجب
وشدد رجب على “ضرورة تدريب السلطات المحلية على كيفية ممارسة الإدارة المستقلة وتطوير القوانين الموجودة وتغيير طريقة الانتخاب وتأليف المجالس البلدية وتهيئة أرضية مناسبة قبل طرح مبدأ اللامركزية الإدارية. إنّ الإدارة العامة، كما الإدارة المحلية، بحاجة إلى ورشة عمل كبيرة لمواكبة اللامركزية الإدارية. وقد عملتُ جاهداً على تحديث القطاع البلدي من خلال تطوير القانون البلدي لجهة تحديد مواصفات الرئيس وأعضاء المجلس البلدي، إلا أنّ عدم معرفة القانون والصلاحيات يعيق عمل البلديات ذات الطابع التشريعي والتنفيذي”.
ودعا إلى “تطوير تعميم ثقافة العمل البلدي عبر إنشاء معاهد لتدريب أعضاء المجلس البلدي والمواطنين لمعرفة حقوقهم وواجباتهم وتفعيل عمل البلديات لجباية أفضل لأن نفس البلدية هو القدرة المالية. علماً أنّ عدد كبير من البلديات، لاسيما الصغيرة منها، لا تجني الضرائب والرسوم بطريقة صحيحة. إنّ وجود عدد كبير من البلديات الصغيرة غير القابلة للحياة يعيق تطبيق اللامركزية. وهنا، أشجع البلديات على تشكيل مجموعات داخلية للقيام بمشاريع إنمائية ناجحة بحسب القانون الموجود، كي يثبتوا للسلطة المركزية بأنهم قادرين على تحمل المسؤوليات وإدارة الأموال والمشاريع”.
كما أكد رجب على “عدم إمكانية السير بلامركزية إدارية قوية من دون وجود حكومة مركزية قوية. ولا بد من التنويه بالنجاح الذي حققته البلديات خلال الأزمات الأخيرة، أزمة كورونا والأزمة الاقتصادية، وهذا دليل على أن دعم البلديات يفعّل دورها. ويمكن اختصار المشاكل التي تعيق نجاح العمل البلدي بغياب ثقافة العمل لدى أعضاء المجلس البلدي وسيطرة الفكر الحزبي والعائلي إضافة إلى قصر ولاية رئيس البلدية الذي يمنعه من طرح خطط جديدة على المدى القريب أو البعيد. ويعاني الصندوق البلدي المستقل من غياب في الشفافية بسبب وجود مشكلة في كيفية دخول المال إليه أي تحديد الكتلة النقدية المجمعة من الضرائب والرسوم. إنّ القانون البلدي القائم حالياً هو جيد بنسبة 60% ولكن المطلوب طرح قانون بلديات عصري”.