فاز المرشح الديمقراطي جو بايدن السبت في الانتخابات الرئاسية الأميركية ، لينهي طموح منافسه دونالد ترامب في البقاء على رأس الولايات المتحدة لولاية ثانية. ونجح الرئيس الجديد في إقناع الناخبين بأنه يملك الخبرة والرؤية السياسية لمحو آثار ما خلفه حكم ترامب “المشاغب” على البلاد. ويرغب بايدن في تضميد جراح الولايات المتحدة التي مزقتها الأزمة الاقتصادية والصحية، واللامساواة العرقية.
فقد اختار الناخبون الأمريكيون في السباق الرئاسي أن يطووا صفحة دونالد ترامب في الحكم، بتصويتهم لصالح المرشح الديمقراطي جو بايدن، حيث حصل على أصوات أكثر من 270 من كبار الناخبين وهو الرقم الضروري للفوز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية حسب ما نشرته وسائل إعلام أمريكية.
وبهذا الفوز، يكون بايدن أكبر رئيس يتم انتخابه على الإطلاق في تاريخ الولايات المتحدة، بعد محاولتين لنيل السباق الرئاسي في 1988 و2008.
فهل سيكون بايدن فعلا الحل الأمثل لطي صفحة ترامب عقب أربعة أعوام من “التهريج” في البيت الأبيض؟ السيناتور السابق لولاية ديلاوير مؤمن بذلك. فهو يلقي بثقل خبرته في واشنطن لمحاولة استعادة كرامة السلطة التنفيذية التي انتزعها نجم تلفزيون الواقع سابقا والذي يُعرّف عن نفسه كملياردير.
وإن كان هناك عدد من القواسم المشتركة تجمع بين بايدن وترامب، إذ إن كلا منهما يجسد الرجل الأبيض الذي تجاوز السبعين من عمره، إلا أن الرئيس الجديد يفضل أن يرى نفسه “مضادا” لترامب: سياسي متمرس، قادر على الانفتاح على الخصم، وقبل كل شيء الاعتراف بأخطائه.
بايدن ابن الطبقة الكادحة
والاسم الكامل لجو بايدن هو جوزيف روبينيت بايدن، ولد وسط أسرة كاثوليكية من أصول إيرلندية في 20 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1942، بمدينة سكرانتون العمالية الواقعة بشمال شرق بنسلفانيا.
ويرجع المرشح الديمقراطي الفضل دائما في طيبته ومثابرته وتعاطفه مع الآخر إلى أصوله، فهو لا يكل عن ذكر أبيه، الرجل الذي عرف الثروة والفقر والذي عمل جاهدا طوال حياته، تارة في تنظيف الأفران وأخرى في بيع السيارات المستعملة، حتى لا ينقص أبناءه شيء أبدا.
ويحب بايدن دائما تأكيد المقولات الأبوية في خلال تجمعاته، منها “يا بني، لا يصنف الرجل بعدد مرات فشله وسقوطه أرضا بل بسرعة نهوضه”، وهي نصيحة كان على جو بايدن الابن تبنيها سريعا. فقبل عقود من وصف دونالد ترامب له بـ”جو النائم”، كان بايدن دائما محلا للسخرية في مدرسته بسبب التلعثم الذي يعاني منه، والذي تغلب عليه بقراءته للشعر بصوت عال أمام مرآته.
في الثالثة عشرة من عمره، انتقلت أسرته للعيش في ولاية ديلاوير. وفي عام 1968، حصل بايدن على شهادة في المحاماة ليصبح بسرعة محاميا أمام المحاكم في وقت شهدت فيه الولاية سلسلة من أعمال الشغب والاعتقالات على خلفية مقتل مارتن لوثر كينغ.
وعندما كان في الـ29، قرر أن يتخذ من السياسة دربا له واستطاع، بشكل مفاجئ، التغلب على السيناتور الجمهوري المنتهية ولايته آنذاك عام 1972 ليصبح بايدن خامس أصغر سيناتور أمريكي في التاريخ.
أحداث مأساوية أثرت في حياته
ولكن فرحته بهذا الفوز لم تدم طويلا، فبعد مرور بضعة أسابيع، وبالتحديد قبل أيام من حلول عيد الميلاد، توفيت زوجته نايليا وابنته ناعومي في حادث سيارة، كما أصيب ابناه صغيرا السن بو وهانتر بجروح. وبعد هذا الحادث المأساوي كاد بايدن يتخلى عن مقعده للعناية بابنيه المصابين، لكن زملاءه أقنعوه بإكمال عهدته. وبالفعل أدى بايدن القسم بجوار سرير ابنيه في المستشفى.
وبسبب الحادث، اضطر بايدن أن يعود يوميا بالقطار إلى منزله في مدينة ويلمنغتون بولاية ديلاوير بعد إنهاء دوامه في واشنطن. وحافظ بايدن على هذه العادة طوال مسيرته المهنية في مجلس الشيوخ، مما أكسبه لقبا آخر وهو “أمتراك جو” (نسبة لشركة الخطوط الحديدية الأمريكية). وبالرغم من قسوة الفاجعة، إلا أنها لم تكن المأساة الأخيرة في حياة بايدن فخلال ولايته الثانية كنائب للرئيس توفي ابنه بو الذي كان مدعيا عاما في ديلاوير، عام 2015 عن عمر 46 عاما بعد صراع مع سرطان الدماغ.
وقال بايدن إن ابنه بو كان يشجعه وهو على فراش الموت، على خوض سباق جديد إلى البيت الأبيض. كما كان لزوجة بايدن الثانية جيل دور فعال في تشجيعه إذ إنها خاضت جميع حملاته الانتخابية بجانبه منذ 40 عاما.
مرشح قادر على خلق صداقات والوصول لحلول وسط بين الحزبين
كان بايدن كسيناتور شخصية محترمة في الكابيتول. فعلى رأس اللجنة القضائية، صنع لنفسه اسما في عام 1987 حين قاد التصويت بالرفض على روبرت بورك، المحافظ المتشدد ومرشح الرئيس رونالد ريغان للمحكمة العليا آنذاك.
وأصبحت قدرته على التوصل لاتفاقات مع الجمهوريين المعتدلين سمته المميزة، لكن أصبح يثير في الوقت نفسه حذر الجناح اليساري للحزب الديمقراطي.
في خلال التسعينيات، استفاد بايدن من حنكته للتوصل إلى اتفاقات بين الحزبين حول مشاريع بيل كلينتون الأساسية، لا سيما حظر الأسلحة الهجومية واعتماد قانون خاص بالعنف ضد المرأة عام 1994.
وفي عهد باراك أوباما، حاول جو بايدن استخدام مهاراته في التفاوض لكن مهمته باتت شاقة أمام التعنت المتزايد للمعسكر الجمهوري، إذ أبقى زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، أتباعه تحت المراقبة مؤكدا أن المهمة “الكبرى” للحزب الجمهوري هي ألا تتجاوز ولاية أوباما عهدة رئاسية واحدة. وبالرغم من هذه الضغوط، لعب جو بايدن دورا حاسما في معظم اتفاقات اللحظة الأخيرة الخاصة بالموازنة لتجنب أو إنهاء حالات “الإغلاق” الحكومي.
أما فيما يخص السياسة الخارجية، كان جو بايدن بنفس ثقله في السلطة التنفيذية على الرغم من أنه افتقد الحكم الصائب بشكل متكرر، مثلما حدث حين طلب تأجيل الهجوم على بن لادن بسبب عدم كفاية المعلومات المتوفرة.
ووعد بايدن خلال حملته الانتخابية بالعودة إلى اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، بعد انسحاب ترامب منهما. كما يأمل الديمقراطي في إعادة نسج العلاقات مع الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، التي خلخلتها أربع سنوات من “الترامبية”.
انتقادات ضد بايدن
هاجم ترامب قبل الحملة الانتخابية بايدن. وطلب من الرئيس الأوكراني التحقيق في قضايا ابنه هانتر بايدن في هذا البلد الأوروبي، الأمر الذي انقلب على ترامب عندما وجه مجلس النواب، الذي يسيطر عليه الديمقراطيون منذ 2018، اتهامات إلى الرئيس الأمريكي السابق قبل أن يقوم مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون بتبرئته.
وتركت سنوات عمله الطويلة في مجلس الشيوخ بايدن عرضة لهجمات منافسيه. فخلال الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، تعرض لانتقادات لاذعة بسبب أدائه حيال اتهامات التحرش الجنسي التي وجهتها أنيتا هيل ضد المرشح إلى المحكمة العليا كلارنس توماس في عام 1991.
ففي الوقت الذي كان جو بايدن رئيسا للجنة القضائية في مجلس الشيوخ، شكك الجمهوريون في صدقية أنيتا هيل، التي اتهمت فيما بعد بايدن بأنه لم يكن قادرا على السيطرة على زملائه خلال جلسة الاستماع. وهو ما دفع بجو بايدن وقتها إلى الاعتذار من أنيتا هيل في عام 2019، لكنها لم تقبل هذا الاعتذار قائلة: “سأرضى حين أعلم أن هناك تغييرا حقيقيا وأن هناك محاسبة حقيقية”. منذ ذلك الحين أعلنت هيل أنها ستصوت لصالح المرشح الديمقراطي على أي حال وأنها مستعدة للعمل معه على القضايا الجندرية.
وانتقدت بدورها منافسة جو بايدن السابقة في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، كامالا هاريس، حصيلته السياسية، خاصة مواقفه السابقة من سياسة الاندماج، والتي استفادت منها هي شخصيا عندما كانت أصغر سنا في بيركلي. واستشهدت هاريس بخدمة “باصينغ” وهي حافلة مدرسية تهدف إلى تعزيز الامتزاج الاجتماعي والعرقي عن طريق خلط تلاميذ من أحياء مختلفة.
لاحقا، وفي خلال مقابلة له على شبكة “سي إن إن”، دافع جو بايدن عن نفسه مؤكدا أنه مقتنع بأن الحافلات التي تشغلها الحكومة الفيدرالية ليست فعالة، ولكنه يؤيد المبادرات المحلية لمكافحة الفصل العنصري في المدارس. و لم يمنع هذا الجدال بايدن من اختيار كامالا هاريس لمنصب نائب الرئيس، مما جعلها أول امرأة من أصول أفريقية تحجز مكانها على “البطاقة الانتخابية” لحزب كبير بالولايات المتحدة.
أما بالنسبة للجناح اليساري للحزب الديمقراطي الذي يجسده بيرني ساندرز، فإنه غالبا ما يلوم على جو بايدن نقص التقدمية والراديكالية في سياساته. فيجيب أنصار نائب الرئيس السابق من خلال تسليط الضوء على العقود التي قضاها بايدن في النضال من أجل العدالة العرقية في الولايات المتحدة وخارجها: فلقد وصف الفصل العنصري في جنوب أفريقيا بالـ”مثير للاشمئزاز”، ويذكرون أيضا بدعمه لتشريع زواج مثليي الجنس خلال الحملة الانتخابية عام 2012، بينما كان باراك أوباما أكثر حذرا.
تودده للآخرين وعادته السيئة بملامستهم أثناء التحاور أديا لتعرضه إلى اتهامات بسلوك غير لائق من قبل عدد من مساعديه. وفي هذا الشأن، دافع بايدن عن عادته في معانقة الأشخاص الذين يقابلهم، قائلا إنه لطالما رأى السياسة كـ”علاقة شخصية”. ولكنه في الوقت نفسه وافق على أن يحاول أن يكون “أكثر انتباها للحيز الشخصي في المستقبل”.
وبالفعل فقد أجبرته جائحة فيروس كورونا على الوفاء بوعده في المحافظة على المسافة الاجتماعية. وكان بايدن طيلة الحملة الانتخابية، حريصا جدا على الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامة، على عكس منافسه الجمهوري الذي كان يقلل من أهميتها ويقيم لقاءات دون ارتداء كمامة على الرغم من تواصل انتشار الوباء الذي حصد أرواح أكثر من 230 ألفا.
“معركة من أجل روح الأمة”
كانت الانتخابات الرئاسية بالنسبة لجو بايدن “معركة من أجل روح الأمة”، عبارة كررها في عدة مناسبات. وعندما سئل على شبكة سي إن إن في سبتمبر/أيلول الماضي عما إذا كان يعتبر نفسه “نقيض دونالد ترامب تماما”، لم يسعه سوى الابتسام قائلا: “آمل ذلك”.
وفي “مثيولوجية” جو بايدن، يظل عام 1988 هو الأحلك في تاريخه، إذ كاد هذا العام ينهي مسيرته السياسية. فمن ناحية، نالت اتهامات السرقة الفكرية وتزوير شهاداته من فرص فوزه بترشيح الحزب الديمقراطي. ومن ناحية أخرى، تم إدخاله إلى المستشفى بسبب تمزق في ورم دموي، واضطر لأخذ نقاهة مدتها سبعة أشهر للتعافي قبل العودة إلى الكونغرس.
وترشح مرة أخرة عام 2008، لكن حصوله على المركز الخامس في المؤتمر الحزبي لولاية أيوا أجبره على الانسحاب من السابق، ليجعله أوباما نائبا له في العام نفسه. ومن هنا كانت بداية علاقة “أخوية” بين الرجلين على حد تعبيرهما. وسمحت السنوات الثماني، التي قضاها بايدن كنائب للرئيس أوباما، له بتبني الإرث السياسي لأول رئيس من أصول أفريقية في تاريخ الولايات المتحدة، مثل نظام “أوباما كير” للرعاية الصحية والخطة الاقتصادية التي أنقذت حينها قطاع صناعة السيارات الأمريكي من الانهيار بعد الأزمة المالية لعام 2008.
ودليلا على خصوصية العلاقة بين الرجلين، أعد باراك أوباما مفاجأة لجو بايدن قبل أقل من أسبوع على مغادرتهما البيت الأبيض، إذ منحه وسام الحرية الرئاسي، وهو أعلى تكريم مدني في الولايات المتحدة. وقال أوباما حينها أنه يقلِّد بايدن جائزةَ “أفضل نائب رئيس عرفته الولايات المتحدة على الإطلاق”.
وكان لهذا الإعجاب المتبادل بين بايدن وأوباما تأثير كبير في حشد الناخبين الأمريكيين من ذوي الأصول الأفريقية خلال الانتخابات التمهيدية، مثلما حدث في عام 2008 حين استفاد أوباما من قاعدة بايدن الشعبية بين العمال والكادحين ما مكنه من تحقيق انتصارات حاسمة.
وتمكن بايدن من التعافي من تهاوي شعبيته بعد البداية الضعيفة في السباق للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، حين حصل على المركز الخامس في الانتخابات التمهيدية لولاية نيو هامبشاير، الأمر الذي كان من الممكن أن يجهض فرصه في الفوز… واستطاع أن ينهض.
وصولا إلى انتصاره المدوي في “الثلاثاء الكبير” في شهر مارس/آذار، عندما استقبل أنصاره بهذه العبارة التي تعكس تاريخه: “لمن تم إهمالهم وتركهم وتهميشهم، هذه حملتكم”، قبل أن يكسب الرهان الانتخابي ويصبح اليوم رئيسا للولايات المتحدة.