عاطف منصور : الدولة التي فقدت ذاكرتها فتخلت عن شيخوختها.

المحامي عاطف حسن منصور

almontasher : ان مأساة المسن في لبنان تكشف عجز الدولة وإنهيارها الأخلاقي قبل الإداري. فهؤلاء الذين أفنوا العمر في خدمة وطن لم يخدمهم يوماً، يجدون أنفسهم اليوم بلا ضمان طبي ولا دواء ولا إستشفاء ولا رعاية إجتماعية. يمضون السنوات الأخيرة من حياتهم يتسكعون على أبواب المستشفيات التي تغلق في وجوههم، وفي منازل لا يزورها طبيب ولا تمتد إليها يد دولة جمعوا لها ضرائبها ورسومها لعقود طويلة.

ما يعانيه كبار السن ليس أمراً عابراً، بل نتيجة غياب سياسة عامة وغياب تشريعات تحميهم وتضمن الحد الأدنى من حياة لائقة. فالمسن اللبناني سواء كان متقاعداً من القطاع العام أو الخاص او من مهنه حرة، يعاني اليوم من شح التقديمات في ظل غياب شبكة أمان تكفل شيخوخة كريمة من خلال برامج رعاية منزلية أو دعم للدواء أو حتى الإستشفاء، وفي ظل غياب مؤسسات حكومية تحفظ كرامة الشيخوخة أو تمنع الإنهيار الصحي والمعيشي الذي بات يتفاقم أمره يوماً بعد يوم.

وهذا التراجع يحصل رغم أن الدستور يفرض على الدولة اللبنانية حماية الإنسان وكرامته وتأمين الضمانات الإجتماعية والصحية، ورغم إلتزام لبنان بالمعاهدات الدولية التي توجب تأمين أعلى مستوى من الصحة والضمان الإجتماعي خصوصا لكبار السن.

كما أن القوانين اللبنانية ولا سيما قانون الضمان الإجتماعي الصادر بموجب المرسوم رقم 13955 تاريخ 26/9/1963 فقد نص على إنشاء فرع للشيخوخة والعجز والوفاة لحماية المسن، لكن الدولة إمتنعت أكثر من نصف قرن عن تطبيقه تاركة المسن وحيداً في مواجهة المرض والعوز، وبقي مشروع القانون كلاماً بلا تنفيذ.

وفي الوقت الذي تتخلى الدولة اللبنانية عن كبارها، تؤمن الدول المتقدمة أعلى مستويات الرعاية. ففرنسا تقدم تغطية صحية شاملة ومخصصات مالية ورعاية منزلية، وكندا تضمن معاشاً ورعاية كاملة لكل مسن، والمانيا تعتمد نظام رعاية طويل الأمد يشمل أدق إحتياجات الشيخوخة، وتركيا تمنح مواطنيها بعد الخامسة والستين بطاقات صحية مجانية وإعانات ورعاية مستمرة. أما في لبنان فيموت المسن في منزله أو على باب المستشفى لان لا جهة ضامنة له ولا من يستقبله، حتى قانون حماية ذوي الإعاقة فلا يشمل كبار السن.

هذه الفجوة ليست مجرد تقصير، بل إنهيار أخلاقي تام. فالدولة التي تستوفي من شعبها ضرائب بين الأعلى في المنطقة، لا تجد مكاناً في موازناتها لدواء المسن ولا لسرير يستقبله ولا لرعاية تحفظ كرامته. بينما تنصرف الطبقة السياسية الى إجتماعات عقيمة لا تبحث في القضايا التي تهم المسن متناسية أنهم صنعوا لبنان وبقوا سنداً له عندما إنهار الجميع.

إن الحاجة اليوم ملحة لإصدار تشريع شامل لحقوق كبار السن، يضمن الرعاية الصحية والإستشفاء والدواء والإعانات الشهرية والرعاية المنزلية والمراكز النهارية، مع تفعيل فوري لفرع الشيخوخة في الضمان الاجتماعي، وتجريم إمتناع المستشفيات عن إستقبال الحالات الطارئة للمسنين، وإنشاء صندوق وطني مستقل لرعايتهم، وكذلك دور رعاية وهي مسألة إنسانية لتأمين بيئة آمنة تحفظ كرامتهم ويضمن لهم حياة أكثر راحة وطمأنينة.

فالدولة التي تتخلى عن شيخوخة شعبها تفقد ذاكرتها، وتنسى جذور وجودها. وكبار السن ليسوا عبئاً بل هم الذين دفعوا أثمان الوطن من صحتهم وعملهم وشبابهم. وما نشهده اليوم من موت صامت بسبب المرض والفقر ليس إلا نتيجة غياب ضمير رسمي وتخلٍ رسمي عن أبسط واجبات الدولة تجاه الإنسان.

صفوة القول، المسألة لم تعد مسألة سياسة صحية، بل مسألة كرامة وطن. فالمسن اللبناني يعيش آخر أيامه بلا علاج ولا دواء ولا رعاية، واذا لم تستفق الدولة وتعيد الإعتبار لحقوق كبار السن، فستبقى دولة بلا ذاكرة، وبالتالي بلا مستقبل.

‫أُرسلت من الـ iPhone

عن mcg

شاهد أيضاً

Visa تطلق مجموعة فنية عالمية لدعم المبدعين والاحتفال بكأس العالم FIFA 26

almontasher (BUSINESS WIRE)– أعلنت Visa اليوم عن إطلاق أول خمس أعمال ضمن مجموعتها الفنية العالمية …