رامي بيطار :الخصم ليس ترفاً بل ضرورة وطنية

نحو نموذج اقتصادي جديد للتجزئة في لبنان:

نقر الصورة لتكبيرها

رامي بيطار، الرئيس التنفيذي لشركة توفير (النهار)

almontasher > يقوم نموذج “الهايبر ديسكاونتر” على مبدأ اقتصادي بسيط وواضح: خفض الكلفة التشغيلية وهوامش الربح معًا، لا عبر خفض الجودة، بل عبر تعظيم الكفاءة في كل حلقة من سلسلة القيمة من التوريد إلى التخزين إلى البيع

المصدر: المصدر: رامي بيطار، الرئيس التنفيذي لشركة توفير

لم يعد مجرّد نشاط استهلاكي يومي، بل أصبح اختبارًا قاسيًا لقدرة العائلة اللبنانية على الصمود. منذ انهيار الليرة واشتداد التضخم، تآكلت القدرة الشرائية للأسر بشكل غير مسبوق، وتحولت الأسواق إلى مرآة للأزمة: فوضى أسعار، تقلبات حادة، وانعدام الثقة بين المستهلك والتاجر، يرافقها تراجع في الإنتاج المحلي.

في مثل هذا الواقع، لم يعد نموذج تجارة التجزئة التقليدي القائم على هوامش ربح مرتفعة وتكاليف تشغيل متضخّمة قادرًا على حماية المواطن. لقد أثبت هذا النموذج أنه هشّ أمام الأزمات، وأنه يحمّل المستهلك وحده كلفة الانهيار. وهنا تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير جذريًا في منظومة التوزيع والاستهلاك، والانتقال من منطق الرفاهية إلى منطق الكفاءة: من نموذج البيع التقليدي إلى نموذج اقتصادي جديد هو “الهايبر ديسكاونتر”.

آلية الدفاع الاقتصادي: عندما تصبح الكفاءة سلاحًا ضد التضخّم
يقوم نموذج “الهايبر ديسكاونتر” على مبدأ اقتصادي بسيط وواضح: خفض الكلفة التشغيلية وهوامش الربح معًا، لا عبر خفض الجودة، بل عبر تعظيم الكفاءة في كل حلقة من سلسلة القيمة من التوريد إلى التخزين إلى البيع. يقوم هذا النموذج على رؤية اقتصادية تعتبر أن الربحية المستدامة لا تتحقق من خلال رفع الأسعار، بل من خلال إدارة أكثر ذكاءً للموارد وتقليل الهدر في إدارة العمليات.

فبدلاً من أن يتحمّل المستهلك عبء التكاليف التشغيلية المتزايدة، يعمل هذا النظام على امتصاصها عبر تحسين الأداء في سلاسل الإمداد والتوزيع، وتبسيط التشكيلة السلعية، والاعتماد على شراكات مباشرة مع المنتجين والمورّدين، بما يسمح ببيع السلع بأسعار منخفضة وثابتة وهوامش محدودة. وهكذا يتحوّل هذا النموذج إلى توازن فعلي بين الاستدامة الاقتصادية وحماية المستهلك، ويجعل من الكفاءة التشغيلية آلية دفاع حقيقية في وجه التضخم، لا وسيلة لتعظيم الأرباح.

في الدول الأوروبية مثلاً، لعبت شبكات الخصم الكبرى مثل Aldi وLidl  دورًا رئيسيًا في ضبط أسعار سلال الاستهلاك الأساسية خلال الأزمات، لأنها نقلت مفهوم “الاقتصاد في التكاليف” من خيار تجاري إلى سياسة اقتصادية غير رسمية تحمي المستهلك وتُبقي السوق مستقرة.

 

العائد الاجتماعي بالأرقام: الكفاءة كدرع اجتماعي
يُظهر تحليل مبسّط أن اعتماد نموذج الخصم في لبنان يمكن أن يوفّر على الأسرة المتوسطة ما بين 15 إلى 20 في المئة من فاتورة استهلاكها الشهرية للسلع الأساسية. هذا التوفير لا يقتصر على الأسعار فحسب، بل يمتد إلى الاستقرار: فالمتاجر التي تعمل وفق هذا النموذج تضمن استمرارية المخزون وتحدّ من تقلبات الأسعار الناتجة عن التبدّل في سعر الصرف أو كلفة النقل.

من الناحية الاقتصادية، يشكّل هذا النموذج آلية حماية فعلية للطبقتين المتوسطة والمتدنية الدخل، إذ يُعيد توزيع الكفاءة التشغيلية لصالح المستهلك، لا على حسابه. كما يخلق بيئة أكثر عدلاً بين المنتج والموزّع، ويفتح الباب أمام الصناعات المحلية للوصول إلى رفوف المتاجر من دون الحاجة إلى وسطاء أو هوامش ربح عالية.

التجربة اللبنانية: من استيراد الفكرة إلى ابتكار النموذج
في لبنان، برزت تجربة “توفير ماكس” كنموذج محلي رائد في تكييف مفهوم “الهايبر ديسكاونتر” مع الواقع الاقتصادي اللبناني. فبدلاً من التركيز على الحملات الترويجية أو العروض المؤقتة، تبنّينا مقاربة تقوم على تسعير شفاف وهوامش ربح منخفضة، لتأمين السلع الأساسية بأسعار واقعية تتناسب مع القدرة الشرائية للمواطن.

لقد طوّرنا في شركة توفير منظومة متكاملة تشمل التوزيع والتخزين والتجزئة تحت مظلة واحدة، ما سمح بتحقيق كفاءة تشغيلية استثنائية تخدم المستهلك. فكل ليرة يتم توفيرها في سلسلة الإمداد تعود إلى المواطن على شكل خصم في معادلة تضع مصلحته في قلب النموذج الاقتصادي، لا على هامشه.

والأهم أن هذا النهج لا يقتصر على حماية المستهلك من التضخّم، بل يساهم أيضًا في تمكين الإنتاج اللبناني عبر تخفيض هوامش الربح على المنتجات المحلية لتشجيع شرائها. بهذه الطريقة، تتحول سياسة التسعير إلى أداة دعم غير مباشرة للصناعات الوطنية، تُنشّط عمل المصانع الصغيرة والمتوسطة وتعيد ضخ الحياة في الاقتصاد من القاعدة إلى القمّة.

من الدعم المالي إلى الدعم الهيكلي
هذا النموذج لا يكمّل دور الدولة فحسب، بل يخفّف عنها عبئاً ضخماً في حماية القدرة الشرائية، ويشكّل بحدّ ذاته شبكة أمان اقتصادية واجتماعية. فبدلاً من الاعتماد على سياسات الدعم القصيرة الأمد أو المبادرات العشوائية، يمكن للحكومة أن تشجّع الاستثمار في شبكات توزيع فعّالة، وتسهّل إنشاء بنى تحتية لوجستية ذكية تُقلّل الكلفة التشغيلية وتُثبّت الأسعار.

الكفاءة ليست ترفًا في اقتصاد مأزوم، بل هي سياسة عامة يجب أن تُدرج ضمن خطط التعافي. فكل ليرة يتم توفيرها عبر الإدارة الذكية والتوزيع الفعّال تُترجم إلى حماية مباشرة للمستهلك، وإلى خطوة إضافية نحو استقرار نقدي واجتماعي طال انتظاره.

وهنا تتضح الصورة 
ليس الهدف البقاء فحسب، بل بناء نموذج يضمن الاستمرارية: من البقاء إلى الاستدامة. في النهاية، لا يمكن للبنان أن يواجه أزماته المتكرّرة بذات الأدوات القديمة. إنّ إعادة بناء الاقتصاد تبدأ من أبسط تفاصيل الحياة اليومية: من سلة التسوّق، من رفّ المتجر، من عدالة السعر.

نموذج “الهايبر ديسكاونتر” ليس مجرد مقاربة تجارية، بل بنية اقتصادية بديلة تضع الكفاءة في خدمة الإنسان، وتُعيد تعريف العلاقة بين الربح والمسؤولية. وإذا ما دُعمت هذه المقاربة بالسياسات الصحيحة، يمكن للبنان أن يتحوّل من اقتصاد هشّ يعتمد على المساعدات، إلى اقتصاد ذكي يعتمد على الكفاءة والإنصاف.

ففي زمن الانهيار، تصبح العدالة في الأسعار شكلاً من أشكال العدالة الاجتماعية ونقطة الانطلاق نحو اقتصاد أكثر استقرارًا وإنسانية.

عن mcg

شاهد أيضاً

حبيب وجه تحية للمصارف اللبنانية لصمودها

almontasher > لمناسبة “اليوم الدولي للمصارف” الذي يُحتفل به سنوياً في 4 كانون الأول وفق …