قبل مئة يوم، لم يكن أمامنا إلا خيار تولي قيادة السفينة. ثلة من المغامرين وقفوا على سطح السفينة أمام الأعين الخائفة والقلقة، قالوا للركاب: دعونا نحاول الإنقاذ. اندفعوا نحو غرفة القيادة على عجل، وانصرف كل واحد من هؤلاء المغامرين إلى سد الثقوب وإصلاح الأعطال…استخدموا أجسادهم شراعا، وأمسكوا الدفة… وبدأت الرحلة.
قبل مئة يوم، كنا نفتش عن أفق وسط الضباب والعواصف، ونحاول تخفيف صدمات الأمواج حتى لا تنقلب السفينة بمن فيها. لقد تسلمنا الحكم، والبلد يغرق بسرعة قياسية. فهل كان بإمكان أي حكومة أن توقف هذا الانهيار الدراماتيكي؟ هل يمكن وقف الانهيار من قبل الذين تسببوا به ثم تركوه لحظة السقوط؟
فلندع جانبا، جدول جردة الحساب بعمل الحكومة خلال المئة يوم منذ نيلها الثقة، ولنتكاشف ونتصارح، بكل صدق وشفافية وواقعية. عندما خرج اللبنانيون إلى الشارع في 17 تشرين الأول، كان ذلك بمثابة فرصة لبداية تحوّل تاريخي في لبنان. شارفت تلك الانتفاضة ـ الثورة على تحقيق غاية اللبنانيين في قيام دولة حقيقية، تلقي خارجها منظومة الفساد، وتبني دولة العدالة.
فتحت الثورة كوة كبيرة في جدار العصبيات والمصالح والاصطفافات المذهبية والطائفية والسياسية، فتشكلت هذه الحكومة التي قررت خوض التحديات ووضعت برنامج عمل طموح وواقعي وموضوعي. اكتشفنا سريعا أن خزينة الدولة خاوية، وأن هناك مكابرة في إعلان الحقيقة للناس، تلك الحقيقة التي تعاملنا معها بواقعية، ولم نتردد في إعلان عدم قدرتنا على دفع ديون لبنان في سندات اليوروبوند.
بعد عشرة أيام فقط من نيل الحكومة الثقة، وعشية القرار التاريخي الصعب بالتوقف عن سداد الديون وفوائدها وإدارة مخاطر هذا القرار بحذر، ضرب إعصار كورونا السفينة، وحاول حرف مسارها، وفرض نفسه كأولوية في مصارعة التحديات، وتربع في أعلى صفحات يومياتنا، لكن ذلك لم يحبطنا ولم يثبط عزيمتنا ولم يعطل برنامج عملنا.
إن جرأة قرارنا ورشد خيارنا أنقذا البلد، فلو أننا كنا دفعنا قيمة سندات اليوروبوند عن سنة 2020 بقيمة 4.6 مليار دولار، لكانت قدراتنا المالية الضعيفة أكثر ضعفا، وعاجزة عن التعامل مع التداعيات المالية والصحية والاجتماعية لوباء كورونا. استنزف التعامل مع الهجوم الوبائي، جهدا كبيرا ووقتا طويلا وإمكانات تفوق قدراتنا.
تقييم أداء الحكومة متروك للناس، وكذلك للعالم الذي راقب بدهشة ما أنجزناه. لكن، حجم المشكلات في البلد وتراكم الأزمات، أكبر من قدرة أي حكومة على التعامل معها، خصوصا في ظل ارتباك دول العالم، والعزلة التي فرضتها الدول على نفسها، وهو ما ساهم في تعطيل خطة كانت الحكومة تعتزم تنفيذها للحصول على دعم مالي بأشكال مختلفة، بهدف تخفيف الأزمة المالية الخانقة في البلد، وكذلك لإطلاق ورشة إنقاذية.
أين أنجزنا وأين عجزنا؟ في بياننا الوزاري، تعهدنا بجدول أعمال مئة يوم منذ نيل الحكومة الثقة. وبالرغم من تعليق كافة المهل في لبنان، لكننا لم نعلق مهلتنا. فلنراجع قليلا مدى التزامنا بهذا الجدول. لقد أطلقنا ورشة عمل لتنفيذ التزامات لبنان بمؤتمر سيدر، وشاركنا بها سفراء الدول المعنية بهذا المؤتمر، وقد لمسوا جدية في تطبيق هذه الالتزامات، ونحن اليوم في الطريق الصحيح نحو بدء الترجمة العملية لمقررات مؤتمر سيدر، بحيث يستفيد لبنان سريعا من ورشة الإنقاذ المالي التي أطلقتها الحكومة، بموازاة المفاوضات التي انطلقت مع صندوق النقد الدولي لمساعدة لبنان، انطلاقا من خطة الحكومة للإصلاح المالي.
بدأت من آخر الإنجازات، لأن ما تحقق في الأسبوعين الأخيرين، هو نقطة الانطلاق لمسار النهوض.
إن خطة الحكومة تعتبر الأرضية الصلبة التي يمكن البناء عليها لإعادة تكوين البنية المالية والاقتصادية للبنان، وهي ستستكمل، خلال أيام، بخطة اقتصادية متكاملة لمختلف القطاعات، فتكتمل بذلك الخطة الاقتصادية ـ المالية الأولى من نوعها للبنان، وهي تستند إلى دراسات وفهم موضوعي للواقع، وتضع تصورا واضحا، وقابلا للتطوير، لكيفية استثمار مقدرات لبنان في عملية النهوض الاقتصادي ـ المالي، يقوم على الاستثمار في الثروات البشرية والطبيعية. نحن متمسكون بالنظام الاقتصادي الحر، ونحن مصممون على تحويل اقتصادنا من ريعي إلى منتج.
يمكنني أن أعلن اليوم، وبكل ثقة، أن الحكومة أصلحت السكة، وفي طور وضع القطار عليها، وأن صفارة الانطلاق قد أذنت ببدء رحلة الإنقاذ. ويمكنني أن أعلن اليوم، أن الحكومة أنجزت ما نسبته 97 % من التزاماتها في البيان الوزاري للمئة يوم، ونحو 20 % من التزاماتها خارج المئة يوم في برنامج عمل السنة. كما يمكنني أن أعلن، أن الحكومة طلبت من الوزارات خفض نفقاتها التشغيلية بين 15 و 20 في المئة، الأمر الذي سيؤدي إلى خفض الإنفاق العام بين 4 و 5 بالمئة في موازنة 2020، على الرغم من أن الموازنة كانت متقشفة أصلا.
وعلى الرغم من اجتياح وباء كورونا العالم، وخطره الجاثم على لبنان، وتهديده المستمر لحياة الناس، إلا أن ذلك لم يوقف ورش العمل على مختلف المسارات.
نجحنا، حتى اليوم، في تأمين الحد الأقصى من الحماية للبنانيين، بمواجهة خطر وباء كورونا، بينما كان العالم يتداعى أمام هجومه الذي عجزت الدول العظمى عن مقاومته، على الرغم من الإمكانات الضخمة التي تمتلكها. ونأمل أن نتجاوز هذه المرحلة الحساسة بأقل قدر من الإصابات، خصوصا أن المشاهد التي نراها في الشوارع غير مشجعة.
لقد فرض وباء كورونا علينا تجميد اقتصادنا المرهق، وتداعيات اجتماعية ومالية صعبة، لكننا حاولنا جاهدين احتواء جزء من هذه التداعيات على العائلات الأكثر حاجة، وسنستمر بتوزيع المساعدات الاجتماعية على تلك العائلات، والتي يستفيد نحو مليون لبناني منها مباشرة، فضلا عن مساعدات أخرى يجري توزيعها عبر البلديات والجمعيات والمؤسسات، والتي ترفع عدد المستفيدين إلى ما يقارب مليوني لبناني.
أما في برنامج الإنجازات، فيمكنني تعداد بعض العناوين، ومنها:
إطلاق بداية التدقيق في ميزانية المصرف المركزي، لأول مرة في تاريخ لبنان.
دعوة الجهات المانحة للكشف عن الأموال المنهوبة واسترجاعها.
إقرار الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، وإقرار تدابير آنية وفورية لمكافحة الفساد واستعادة الاموال المتأتية عنه.
طلب إجراء التحقيقات بخصوص الأموال التي حولت إلى الخارج قبل وبعد 17 تشرين الأول 2019.
مشروع قانون يرمي الى رفع السرية المصرفية.
استرداد إدارة وتشغيل قطاع الهاتف الخليوي والتحضير لمناقصة عالمية.
إنجاز القوانين المتعلقة باستقلالية القضاء والتنظيم القضائي.
وضع سياسة جزائية عامة عبر استبعاد التوقيف الاحتياطي إلا عند الضرورة.
بدء المفاوضات لتلزيم استقدام الغاز الطبيعي عبر المنصات العائمة لتخزين وتغويز الغاز الطبيعي.
انتهاء المرحلة الأولى من التنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية، والاستعداد للمرحلة الثانية.
مشروع قانون يرمي الى فتح اعتماد إضافي بقيمة /1200/ مليار ليرة لبنانية في الموازنة العامة لعام 2020 يخصص لمواجهة الاوضاع المستجدة بفعل وباء كورونا.
أيها اللبنانيون، أعلم جيدا أن المطلوب كثير جدا، وأن الظروف صعبة جدا، وأن معاناتكم طالت كثيرا، وأنكم بلغتم درجة اليأس من إمكان حصول إصلاح يحقق أحلامكم في بلد يحترم الإنسان فيه.
مشكلتنا في لبنان أن السلطة، أي سلطة، تنظر إلى اللبناني على أنه محكوم بها باعتبار أنه لا غنى عنها.
مشكلتنا أكثر، أن قيمة الإنسان في لبنان متدنية جدا، فالسلطة التي تصادر الدولة ومؤسساتها ومقدراتها، تحمي نفسها أولا، قبل أن تفكر بحماية الإنسان في لبنان. الأمثلة كثيرة، لكن النتيجة واحدة: غربة اللبناني في وطنه.
أولى أولويات هذه الحكومة هي استعادة العلاقة بين الدولة والمواطن. الدولة هنا ليست سلطة، وإنما هي الراعية لأبنائها، تحميهم، وتمنع عنهم الأذى، وتعطيهم حقوقهم كما تأخذ حقوقها، وتقدم لهم الخدمات التي يحتاجونها.
لا تستقيم علاقة الثقة بين المواطن والدولة إذا كانت الدولة تأخذ ولا تعطي. الدولة تأخذ الرسوم والضرائب، لكن، ماذا قدمت للناس؟ كهرباء مظلمة! مياه ملوثة! شوارع غير نظيفة! استشفاء غير مجاني! فساد في الإدارة! فساد في السياسة! هدر في المالية العامة! مشاريع فاشلة! سمسرات فاجرة! طرقات غير سوية! غلاء فاحش! تلاعب مجرم بسعر الليرة!
أليست هذه هي الوقائع؟ وهل يكفي تعداد المشكلات للدلالة على سوء العلاقة بين الدولة والمواطنين؟ نحن نريد تغيير هذه العلاقة. نبذل جهودا كبيرة لهذا الهدف. لكن العوائق كثيرة، والجدران مرتفعة جدا وحصينة، والذهنيات متحجرة. مع ذلك، سنواصل العمل، ونحتاج إلى دعم الناس كي نتمكن من تغيير الصورة النمطية للدولة.
نحن نؤمن أن الدولة، أي دولة، لا يمكن أن تستقر إلا إذا شعر مواطنوها بالأمان. بكل أسف، لم تقدم الدولة لأبنائها الأمان. لكني أؤكد لكم، وبكل ثقة، أن الأمل كبير بتحقيق هذا التحول الذي يجعل الناس شركاء في بناء الدولة التي تحترم قيمة الإنسان فيها، وتمنح أبناءها الاستقرار الذي يطمئنهم إلى حاضرهم ومستقبل أبنائهم.
أيها اللبنانيون، نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام… هذا إن عدل. هذه الحكومة جاءت من خارج السياق الروتيني لتأليف الحكومات في لبنان. ولذلك، فإن نجاح هذه الحكومة، سيشكل بداية التحول في مفهوم الحكم والسلطة، وكذلك في إصلاح الخلل القائم في العلاقة بين الدولة ومواطنيها.
نحن نعلم أن هناك من يسعى إلى إفشال الحكومة، سواء لمصالح سياسية أو شخصية، لكننا مصممون على الاستمرار بتقديم نموذج في الأداء والعمل، على الرغم من الصعوبات الكثيرة التي تواجهنا. نعلم أن هناك من يسأل: ماذا فعلت هذه الحكومة؟ وماذا حققت لتخفيف الأزمة؟ نعلم أن هناك من يحاول الترويج بأن الحكومة تعطي وعودا غير قابلة للتحقيق. لكن الحقيقة مختلفة، فقد حققنا، في مئة يوم فقط، الكثير الكثير، وواجهنا الكثير من التحديات، بجرأة وصراحة وشفافية. ليس لدينا ما نخفيه، ولسنا هواة استعراض، ولا نريد التلهي بمعارك سياسية عقيمة، ونفضل قلّة الكلام وكثرة العمل، لأننا ندرك أن اللبنانيين فقدوا الثقة بالكلام، وملوا من المعارك الكلامية الوهمية التي تحاول استنفار العصبيات، لخدمة مصالح شخصية أو سياسية.
نحن نريد استنفار عصبية واحدة، هي العصبية الوطنية. مصلحة الحكومة ومصلحة اللبنانيين تكمن في إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والناس. نحن نريد الدولة، فقط الدولة، بمؤسساتها الجامعة، وركائزها القوية، وبنيانها الصلب، وسقفها الذي يحمي كل المواطنين.
أيها اللبنانيون، لا خيار لنا إلا وحدتنا وتحمل الصعوبات، لأن هذه الروحية هي الوقود الذي يعطي قوة الدفع الكافية لعبور النفق بأسرع وقت ممكن. لقد عبرنا المرحلة الأولى، وربما الآتي صعب ايضا، لكن الضوء بدأ يلوح في آخر النفق. نعم هناك أمل.. والأمل كبير بأن نتجاوز الصعوبات بمرونة أكبر، فما زرعناه على مدى مئة يوم، ستبدأ براعمه بالظهور، ولن يطول الوقت لكي نرى الثمار.
أدرك جيدا معاناة اللبنانيين جراء ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي أمام الليرة اللبنانية، وتداعيات هذا الارتفاع على أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية، فضلا عن باقي السلع. هذا الأمر نعالجه بعمق كبير وعناية شديدة، وأنا أعلن هنا، أن الإجراءات بدأت فعليا، حيث تبلغت وعدا من حاكم مصرف لبنان، أن المصرف سيتدخل في السوق، اعتبارا من اليوم، لحماية الليرة اللبنانية ولجم ارتفاع سعر صرف الدولار. وأعلن أيضا أنه سيتم دعم استيراد السلع الغذائية الأساسية وفقا لجداول تم تحديدها، وستكون هناك متابعة يومية لخفض أسعار المواد الغذائية، وسيلمس اللبنانيون في وقت قريب، تراجعا في أسعار هذه السلع.
أيها اللبنانيون، عهدنا لكم أن نستمر بالعمل لكي نصنع التغيير الإيجابي في بلدنا. رهاننا عليكم أن تستمر مسيرة الإصلاح التي أطلقناها، وأن تدفعوا باتجاه بناء الدولة التي تحمي حاضر ومستقبل أبنائها”.