“تحكي الاساطير عن رجل شاهد الوباء وسأله الى اين؟ قال: الى قرية كذا، فقد امرت بخمسة الاف منهم. حينما عاد الوباء قال له الرجل: لقد حصدت خمسين الفا بدلا من خمسة الاف. رد الوباء بأنه حصد خمسة الاف، اما البقية فقد حصدهم الوهم”. (المفكر السعودي سلمان العودة)\

شكل لبنان منذ تأسيسه في العام 1920 نموذجا فريدا ومميزا لدولة كاملة المواصفات في منطقة الشرق الاوسط وحتى في العالم، ان في نظامه السياسي او الاقتصادي – المالي او الاجتماعي وحتى الامني. كل هذه الانظمة المتكاملة كانت تظللها، عموديا، تعددية دينية لسبع عشرة طائفة (قبل ضم الطائفة العلوية اليها) توزعت بين المسيحيين والمسلمين.

لم يشهد لبنان منذ انشائه استقرارا دائما. خلال اكثر من قرن، تعرض لازمات حادة واحيانا كانت مميتة، وفي كل مرة كان يخرج منها “مدميا” ومنهكا – حسب اللغة العامية – لكنه كان ينهض مجددا كطائر الفينيق من تحت الرماد، ويستعيد عافيته. كان يعتقد الجميع انه عاد الى وضعه الطبيعي، لكن لم ينتبه احد، من المسؤولين في اعلى الهرم الى القاعدة، ان الجميع تركوه يهرم حتى وصل الى مرحلة انهارت فيه كل قواه دفعة واحدة نتيجة الوهم الذي كان يعتقدون فيه انهم فعلا يحكمون بلدا ويديرون دولة، بينما في الحقيقة كانوا يمعنون في قضم ما طالت اياديهم من محتوى دستوره ومواد قوانينه، بالاضافة الى تجويف وتفريغ كل القواعد السياسية والاقتصادية والمالية والامنية التي يرتكز عليها هيكل الدولة.

في السياسة، كان “الوهم” ينتاب كل الافرقاء السياسيين الذين اعتبروا ان تطويع النظام الديموقراطي لمصلحتهم، وتحويله الى نظام توافقي لتوزيع الحصص على بعضهم بعضا، ربما يساهم في بناء الدولة. لكن في الحقيقة كانوا يمعنون بقوة في هدم اسس النظام الديموقراطي، الذي من ابرز مقومات صموده ومتانته، تداول السلطة من خلال قانون انتخاب يرتكز على التمثيل الصحيح من جهة، وتطبيق الدستور والقوانين الناظمة بكل وضوح وشفافية من جهة اخرى.

في الاقتصاد والمال، فان الوهم الذي غمر عقول حفنة من اصحاب المال والنفوذ والامتيازات والوكالات الحصرية اعمى عيونهم عن الحقيقة التي التي تقضي بضرورة العمل على تطوير النظامين الاقتصادي والنقدي ليواكبا الحداثة والتغيرات في العالم، والتحول الى اقتصاد منتج بدلا من صرف مبالغ طائلة لاصحاب القرار وصنّاعه كي يبقوا في نظام يرتكز على الاقتصاد الريعي، وعلى الخدمات السياحية المتنوعة، وعلى اكذوبة السرية المصرفية لتغطية عمليات تبييض الاموال والرشوة والفساد، و… فاعتقدوا بـ “وهمهم” هذا، انهم الاذكى والادهى، ولن ينافسهم احد، وكأن الزمن وقف عندهم، فاثروا هم ثراء فاحشا، وتهدم الهيكل النقدي والمصرفي على رأس الشعب.

في السيادة والامن حدث ولا حرج، توهم بعض الداخل انه اذا طلب المعونة من الخارج يقوى ويتسلط ويحكم، ويحمي عشيرته ويضمن مستقبلا آمنا لـ “رَبعه”. وزاد في وهمه ايضا، انه في تأليف ميليشيا مسلحة، واستقدام السلاح والمال من الخارج، تتضاعف سطوته على الاخرين ويمسك بالدولة وبمؤسساتها. لكنه لم ينتبه الى ان عمله هذا سيعتمد لدى باقي الاحزاب والطوائف، وكل طرف سيدخل الى عقله وفكره وهم القوة المجوف، والانتصار المزيف. اما على ارض الواقع، كل هؤلاء ساهموا، من خلال الوهم المزروع في عقولهم، في خنق القرار الوطني السيادي، وفي تحييد القوى الشرعية ومنعها من ممارسة مهماتها الطبيعية على الارض وضبط الاستقرار وصون السلم الاهلي وحماية الحدود.

الوهم والحقيقة لا يلتقيان، فاذا سقط الوهم انتصرت الحقيقة. واذا فاز الوهم سقطت الدولة. الى متى سيبقى الوهم يغشي عيون المسؤولين، ويبعدهم عن تأسيس دولة الحرية والحق والقانون والحياة الحرة الكريمة، وتحقيق الفصل بين السلطات السيادية – المتوازية: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتعبيد الطرق امام الشعب وامكاناته الابداعية في كل مجالات الحياة العلمية والفنية والادبية والانسانية الحقوقية العامة والخاصة؟

* مجلة الامن العام العدد