هذا البيت من الشعر، قيل في زمن مضى، ولكن يبدو اّنه يحاكي الحاضر اللبناني في زمن الانتخابات النيابية، حيث يمكن إسقاطه «حفر وتنزيل» على بعض الكائنات المحلية التي ضرب رؤوسها بخار غبي، أعمى بصرها وبصيرتها، فظنّت نفسها رقماً في هذا البلد، فيما هي في حقيقتها لا مكان لها من الإعراب حتى في مجالها.
إنّه بالفعل زمن بائس؛ فليس أسوأ من الأزمة والانهيار الاقتصادي والمالي، سوى الانهيار الاخلاقي، الذي يحاول الذين انزلقوا فيه إرساء أسوأ ظاهرة في البلد؛ ظاهرة تطاول الصغار على القامات الكبيرة في هذا البلد. واحتراف مهنة الشتم والافتراء والتجريح الشخصي، ظنّاً منهم ان هذه المهنة الرخيصة تفتح امامهم باب الدخول الى الوظيفة او النيابة او الوزارة، حيث انجرف فيها بعض ممّن حملتهم الصدفة او الواسطة لكي يظهروا على الشاشات.
وما يدعو الى الأسف، هو انّ من بين هؤلاء اعلاميين، يبدون على الشاشات مجرّد آلات «مشرّجة» برصيد شتائمي مبرمج في اتجاه مسؤول معيّن، فيما هم كان طموحهم وأقصى حلمهم حتى الأمس القريب أن يمنّ هذا المسؤول عليهم ولو بمصافحة، أو حتى أن يردّ عليهم التحيّة والسلام!
ومن بين هؤلاء أيضاً، بعض ممّن انتحلوا صفة خبراء ومنظّرين في عالم المال والاقتصاد، وتسلقوا في زمن الثورة على ظهر «الغاضبين»، فسمّوا انفسهم ثواراً، بعدما ضاقت بهم السبل وخابت توسّلاتهم لسنوات طويلة في حجز موقع وظيفي او نيابي او وزاري، ممّن صاروا يشتمونهم ليل نهار على المنابر ومواقع التواصل الاجتماعي؟! وأحد أكثر الناشطين على المنابر ومواقع التواصل، لو كان للطريق لسان ينطق، لأخبر كم تورّمت قدماه وهو يحاول الوصول تارة إلى عين التينة، وتارة أخرى الى الرابية وتارة ثالثة الى مراكز «حزب الله» في الضاحية الجنوبية، عارضاً خدماته وأوراق اعتماده. وبعدما خاب أمله وفشل في الامتحان، قرّر في هذا الزمن أن ينقل البارودة ويجرّب حظّه على كتف التغيير؟!
لناس بالتأكيد ليسوا على دين واحد، ولا على رأي واحد، ولا على موقف واحد، فلكل دينه ومعتقده، ولكل رأيه وموقفه، واحترام هذا الرأي واجب حتى ولو كان مناقضاً للرأي الآخر، وفي هذا التنوع يبقى الحوار والنقاش أقرب الطرق الى تدوير زوايا الخلافات وبناء مساحات التلاقي والتفاهم تحت سقف المصلحة العامة. كل ذلك من البديهيات.
وتبعاً لذلك، فإنّ الإعلام، إحدى أسمى المهن، مهنة مسؤولة، والإعلامي حرّ ومسؤول في آن معاً، ضمن حدود الحرية المسؤولة كما هي حرّية إبداء الرأي والتعبير بمعناها الحقيقي وبأنقى صورها المصانة بالقانون والدستور، وليس كذلك العنوان المشوّه للحرية التي يقفز فوقها بعض المنزلقين في الانهيار الأخلاقي ليجعلوها غطاء للشتيمة والفلتان الأخلاقي وقلة الأدب.
والعمل في الحقل العام، حق لكل لبناني، وليس في إمكان احد ان يمنع هذا الحق، والترشّح للانتخابات النيابية حق لكل من يجد في نفسه الاهلية لأن يخوض هذه التجربة، وأيضاً ليس من حق أحد ان يمنع هذا الحق. ولكن ان يبني هذا المرشّح، سواء اكان ذكراً او أنثى، سعيه لدخول الندوة البرلمانية على دجل سياسي وتجريح شخصي بالآخرين، وتقديم نفسه كقديس تارة، وتارة اخرى «إماماً ثالث عشر» ورفيقاً او رفيقة للإمام الحسين. فهذا قمة الخداع؛ خداع النفس قبل خداع الآخرين.
هذا هو الحال مع بعض من غشّتهم مراياهم المكبّرة، وغرّتهم في أن ينزلوا الى حلبة الإنتخابات عبر برنامج انتخابي مضمونه؛ وقاحة وشتائم وإهانات.
الفاقع تبعاً لما تقدّم، ما هو حاصل في دائرة الزهراني – صور، دائرة الرئيس نبيه برّي، والألسنة التي تنطق بالباطل ضدّه وتحاضر بعفّة مفقودة وتزف البشرى بأنّها ستهزمه في عقر دائرته .. وكذلك الإفتراء العابر للدوائر الانتخابية، والهدف أيضاً هو الرئيس بري. وتبدّى ذلك في ما «رندحت» به بلا خجل، إحدى المرشحات في إحدى الدوائر البعيدة عن الجنوب، على إحدى الشاشات ضدّ الرئيس بري، علماً انّ هذه المرشحة بالكاد وجدت لها مكاناً في لائحة جرى تجميعها «من كل وادي عصا». وخلصت في النهاية الى انّها بعد فوز لائحتها لن تنتخب بري رئيساً لمجلس النواب. والأكيد هنا انّ الرئيس بري لو سمعها سيصيبه الأرق .. ولن ينام الليل؟!
هؤلاء يقدّمون عن انفسهم نبذات مستفزّة للتاريخ كما للحاضر والمستقبل، ولعلّه مع «فلتان الزرازير»، ينفع إيراد نبذة عن نبيه بري راسخة في وجدان كل المخلصين، ويشهد له فيها خصومه قبل مريديه.. وفيها:
– انّه في مشواره السياسي كما النيابي، انطلق حاملاً لجواز سفر عابر للطّوائف والمذاهب والخلافات والانقسامات والحدود، ويشهد له إلمامه الدّقيق بالتوازنات اللبنانيّة، وأنّه العنوان الدّائم والثّابت للتّلاقي، كما للدّهاء والحنكة والثّقافة والنّباهة والظّرافة، وكلّها صفاتٌ جعلت منه حاجة للجميع، وجسراً بين الجميع.
– وانّه في موقعه على رأس السلطة التشريعية كان على الدوام معلّماً محترفاً، يروّض السّياسة واختلافاتها وتقاطعاتها، ويتقن دوزنةَ المواقف والعِقَد، وجَعْلَ الأزمات فرصاً يستولد من صعوباتها وتعقيداتها حلولاً ومخارج تكسر الأبواب المغلقة. فليس مثله من يجيد رثي الثّوب اللبناني عندما تصيبه مُزوق سياسيّة وفتوق طائفيّة وشروخ مذهبيّة. وليس مثله خبير في تدوير زوايا ومثلّثات السّياسة ومربّعاتها ومستطيلاتها وكلّ الأشكال الهندسيّة المعقّدة في بلد اعتاد الخلاف والاختلاف، واحترف الانقسام حول كلّ شيء حتّى على جنس الملائكة.
– وإنّه في الأزمات، وما كان أكثرها، لطالما كان مبادراً إلى النّجدة حينما يوشك البلد أن يدخل في غيبوبة سياسيّة قاتلة، فيهبّ إلى إخماد حرائق السّياسة المحليّة والإقليميّة متى هدّدت لبنان، وينادي الجميع في اللّحظة الحرجة، ليركبوا معه السّفينة إلى شاطئ الأمان.
– وإنّه أمام الاستحقاقات والتحدّيات، تُشهد له جرأته في حفر الصّخر، ولو كانت أداة الحفر إبرة صغيرة، يستخدمها لإحداث ثُغر في جدران أيّة مشكلة أو أزمة، ويثابر على الحفر، حتّى تتّسع الرؤية من الثّقب، نحو الأمل الذي لطالما بدا إليه مشرقاً.
– وإنّه بشهادة كل ما عاصره في السياسة قاسٍ يلبس ثوب المحاور الصّلب العنيد عندما يتعلّق الأمر بالمسلّمات والثّوابت والسّيادة والكرامة الوطنيّة. وليّنٌ طريٌّ حينما تستدعي التّضحية والتّنازل في سبيل مصلحة الوطن وصيانة استقراره، أن يرتدي ثوب محاور في منتهى السّلاسة والليونة. انّه بهذه الصّفات كلها، فرض الرّئيس نبيه برّي نفسه رقماً صعباً في كلّ المعادلات والعهود، وجسر تواصل عندما كان يعزّ اللقاء وتسود لغة الفرقة والتباعد. والكل يسجّل له نجاحه في إقناع المتخاصمين بالجلوس الى الطّاولة، فالحوار في مفهومه ضرورة ومصلحة، وأقصر الطّرق إلى صون لبنان واستعادة مؤسّساته الدستوريّة لدورها وفعاليّتها، وإلى انتظام الحياة الوطنيّة بشكل عام. يبقى انّ صناديق الاقتراع صارت على بعد يومين، وستنطق بنبض الناس وستحدّد نتائجها موقع الكبار وكذلك موقع وحجم الصغار والمتطاولين وكل المغتاظين من الولاية المجلسية الجديدة لدولة الرئيس.