almontasher >>هل إنّ انضمام سوريا إلى اتفاقات ابراهام وفق ما تشتهي الولايات المتحدة الأميركية وتتمنّاه إسرائيل، هو من السهولة بمكان؟ وهل في مستطاع الدولة الأعظم في العالم وذراعها العبرية في الشرق الأوسط إمرار صفقة، ما كانت لتمرّ في خيال مراقب ومتابع، لولا سقوط النظام السوري السابق الذي شكّل عقبة كأدأ في وجه كل محاولة تطبيع، برفضه الحوافز والإغراءات التي كانت تطرح عليه؟
في الواقع كان المزاج السنّي العربي منذ العام 1948 حذراً جداً، بل رافضاً بقوة أي محاولة لتعديل العلاقة مع إسرائيل، من خلال مبادرات من هنا وهناك، وأنّ من رصد تردّداته حيال أي شكل من أشكال التطبيع السافر والمقنّع، يتبيّن له أنّ هذه الخطوة التي شرعنتها بعض الدول العربية، بدت ناقصة لأنّها بُنِيَت على قرارات بين الدول المعنية على مستوى رسمي، ولم تُترجم على أرض الواقع، لأنّ حال التنافر كانت أقوى من كل إتفاق. ففي مصر لا يستطيع الإسرائيلي أن يتجوّل بحرّية، أو يشارك في معرض تجاري أو ثقافي، لأنّه مرفوض لدى شعب هذه الدولة. كذلك الأمر في الأردن، ولم يطرأ أي تبدّل على هذا المزاج في عزّ احتلال إسرائيل للبنان واقتحامها عاصمته بيروت عام 1982، وسط انقسام عمودي بين فئة ترفض اجتياح لبنان واحتلاله ومفاعيله السياسية، وأي نوع من أنواع التعامل مع الدولة العبرية الغازية، وفئة ثانية كانت ترى في ما حصل فرصة لإرساء سلام يُخرج البلاد من دوّامة العنف. ولم يجد إتفاق أوسلو في إحداث تحوّل نوعي في طبيعة النزاع العربي – الإسرائيلي، وذلك على رغم من الغزو العراقي للكويت في الثاني من آب 1990، الذي استدرج الغرب إلى المنطقة من بوابة الدفاع عن سيادة دولة خليجية، إنتهكها نظام متهوّر يقوده رئيس لا حدّ لطموحاته الكبيرة وتطلّعه لأن تكون له اليَد العليا في المنطقة. وكان الغزو غير المكتمل والفاقد لكل مقوّمات النجاح هو الإسفين في نعش النظام العراقي الذي انهار أمام العملية الكبرى بقيادة الولايات المتحدة في 19-20 آذار 2003، التي تدخّلت براً وأسقطت كل مؤسسات هذا النظام، وخلخلت ركائزه، فحلّت قوات الجيش والشرطة والأمن العام وقوى الأمن الداخلي، وأجهزة الاستخبارات والجمارك، وبات العراق ساحة مفتوحة أمام الإرهاب الإقليمي والدولي، وفي ظل هذه الأجواء ولد تنظيم «داعش».
كان للمزاج السنّي وأدبياته الوطنية في لبنان دور أساسي في إسقاط إتفاق 17 أيار 1982، إلى جانب قوى سياسية من مختلف الطوائف التي لها حيثية تمثيلية. لكن، وعلى إثر اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وما سبقه وتلاه من قرارات دولية مصحوبة بضغوط قاسية، لا سيما من مروحة واسعة من الدول العربية الوازنة، بدأت المنطقة تشهد تحوّلاً تدريجياً في مناخ الطائفة السنّية في لبنان والعالم العربي، بفعل حملات إعلامية مبرمجة ضدّ إيران وسوريا والقوى الموالية لهما، وإسناد كل عمل إرهابي وتخريبي يستهدف أفراداً أو كيانات من فريق 14 آذار إلى معارضي هذا الفريق. وهكذا جرت شيطنة قوى 8 آذار في لبنان والنظام السوري وإيران، باعتبار هؤلاء أنّهم مصدر عدم الاستقرار في المنطقة. ولاقت الحملة استجابة على امتداد العالمَين العربي والإسلامي، بإستثناء دول قليلة معارضة لهذا التوجّه أو ظلّت على الحياد. وبعد انهيار النظام البعثي في بغداد، وسقوط ليبيا وتقسيمها إلى دولتَين، واختراق إسرائيل السلطة الفلسطينية، لم يَعُد الكيان الصهيوني ذاك «التابو»، ولم يَعُد عداء العرب له في المستوى الذي كانوا عليه. وكرّت سبحة الأحداث لتثبت أنّ عملية الاستهداف المبرمج مع محاولات «كَيْ الوعي» أفلحت في تشكيك شعوب المنطقة بنظرية العداء المطلق لإسرائيل، ووقوفها في حيرة أمام الأسئلة المتناقضة، وصار هذا الموضوع قابلاً للنقاش بعدما كان من المحرّمات.
هذه الأجواء بدأت تشق طريقها، وإن بصعوبة، في مجتمعات دول الطَوق. لكنّ الحروب الأخيرة على لبنان واحتلال نقاط 5 في جنوبه، وسقوط النظام السوري السابق وما تلاه من قضم لمنطقة الجولان ومناطق أخرى في جنوب سوريا، والجانب السوري من مرتفعات جبل الشيخ، عدا الإبادة الجماعية في قطاع غزة، والمواجهة الدائمة مع ما يُطلق عليها الأذرع الإيرانية في العراق واليمن، أدّت إلى اختلال كبير في موازين القوى على الأرض، وإلى حال من الضعف، لا يمكن معها تصويب المعادلة بسهولة.
من هنا، رأت واشنطن وتل أبيب، أنّ رؤوس الأنظمة المستهدفة قد أينعت، وحان قطافها، وأنّه بات من السهل جرّها إلى طاولة المفاوضات وتوقيع «صك استسلام» تحت عنوان «الواقعية السياسية» و»العين لا تقاوم المخرز»، وفي زعمهما أنّ شعوب هذه الدول باتت أكثر طواعية واقتناعاً بأنّ السلام مع إسرائيل أفضل من حال المراوحة أو المواجهة. وذلك يعني محو القضية الفلسطينية من الذاكرة العربية، وإدخالها مهبّ النسيان. ولأنّ سوريا، أي سوريا: الاستقلالية، الاتحادية، البعثية، كانت قلعة التشدّد في مواجهة إسرائيل، قد وقعت في قبضة الإسلاميِّين بقيادة أحمد الشرع الذي يحظى بدعم أميركي-غربي-عربي واسع، وجدت كل من واشنطن وتل أبيب الفرصة سانحة لفرض وقائع جديدة تبدّل وجه المنطقة وتدخله في عصر جديد تسوده ثنائية بمفعول أحادي، بدءاً من التطبيع. لم يمانع الشرع في ذلك، بدليل أنّه لم يُكذّب المعلومات التي تناقلتها وسائل الإعلام في هذا الشأن، بالإضافة إلى التصريحات المنسوبة إليه، وتنمّ عن رغبته في فتح صفحة جديدة مع إسرائيل، تضع حداً للعداء التاريخي معها، ويُدرَس الإخراج في خطوطه العريضة والتفصيلية، والتبريرات التي تسوغ الخطوة التي سيُقدم عليها، وقد تكون البداية ترتيبات أمنية قد يؤدي نجاحها وحسن تطبيقها إلى إتفاق سلام شامل لا يستثني الجولان ومناطق في الجنوب السوري ومرتفعات جبل الشيخ. والأسئلة المطروحة:
-
هل يحق لسلطة انتقالية تقدّم نفسها بهذه الصفة عقد اتفاقات بمثل هذا المستوى والحجم والخطورة؟
-
هل سيحترم أي إتفاق محتمل الحدود الدولية لسوريا المعترف بها لدى الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية؟
-
هل يتقبّل الرأي العام السوري ضمّ الجولان إلى إسرائيل، أو أي إجراء آخر يضع بلاده تحت الرقابة المباشرة للدولة العبرية على حساب الدولة السورية؟
-
هل يستطيع السوريّون هضم التطبيع والتعامل مع نتائجه على الأرض بسلاسة ومن دون مشكلات وإشكالات – مع التذكير بالتجربتَين المصرية والأردنية سحابة العقود السابقة – إذ لم تفلح محاولات التطبيع على المستوى الشعبي. وعلى رغم من اتفاقيتَي كمب ديفيد ووادي عربة، ظل الإسرائيليّون غير مرحّب بهم في كل من مصر والأردن؟ فكيف يستطيع الشرع أن يذهب إلى التطبيع مع إسرائيل في سوريا المقسّمة، المشرذمة، وغياب جيشها النظامي الذي حُلّ على غرار الجيش العراقي بعد إسقاط صدام حسين، وعدم قدرة رئيس السلطة «الموقتة»على تنقية صفوف القوى المسلحة التي جمعها ويواصل جمع أفرادها من التنظيمات الإسلامية التي كانت تحارب النظام السوري، والنسبة الكبرى منهم من المتطرّفين الذين لا يتأقلمون مع فكرة الدولة السورية التي تحترم التنوّع الديني والإثني، وتحصينها ضدّ أي إختراق؟