طلال سلمان : “الترجمان”.. عدنان الحاج

طلال سلمان –  180 Post

جاء إلينا عدنان الحاج، وكنا في الطريق، ليكون “الترجمان” الخاص للإقتصاد، تحت رعاية عصام الجردي، وعندما “تمكن” صُرنا نقول له في إجتماعات هيئة تحرير “السفير”: “هات لنا يا كابتن من يُترجم لنا أرقامك ومقالاتك”!

إنضم رفيقنا عدنان الحاج إلى أسرة “السفير” متدرباً، وكانت الجريدة في أوج حضورها، زخماً ومهنة ودوراً وشغفا وهوية. شاب متخرج من الجامعة ورياضي متحمس من أسرة متوسطة الحال. قرر أن يعمل تحت راية زميلنا الراحل عصام الجردي.. وما أدراك ما عصام الذي يشبه بشخصيته آخر رموز الحقبة الستالينية. صمد عدنان وأثبت نفسه بسرعة قياسية وحجز لنفسه مساحة راحت تكبر تدريجياً إلى أن صار مُديراً ورئيساً للقسم الإقتصادي في “السفير” لأكثر من ربع قرن من الزمن.

لم تعترف به فقط أسرة الجريدة. إعترف به الناس والهيئات النقابية والإقتصادية والمالية والمصرفية؛ ذلك أن عدنان وضع أحقاده الطبقية وأراءه السياسية جانباً وقرر أن يكون مهنياً بامتياز، حتى ينتزع مشروعية الحضور في قطاع ليس من السهل إقتحام دهاليزه وأسراره ومراكز القوى فيه.

ولمن لا يعرف، لم يكن عدنان عبقرياً في الإقتصاد، لكنه خاض هذا الغمار متسلحاً بنبض الشارع.. وراح تدريجياً يغوص في التفاصيل والأرقام والمعطيات، مستعيناً برأسمال وحيد: قلمه وضميره.

لم يتلوث عدنان الحاج طائفياً. طبيعة المنطقة التي ينتمي إليها، أي إقليم الخروب (إبن بلدة بعاصير) ومحلة الطريق الجديدة التي نشأ فيها وكان معظم شبابها ينادونه فيها بإسمه الأكثر تداولاً “الكابتن” بعدما صار قائداً لفريق “الأنصار” الرياضي، ثم حضوره اليومي في “السفير” التي كانت مختبراً لأجيال من جنسيات وطوائف وعقائد مختلفة، وزواجه من صبية خيامية جنوبية (زوجته الراقية السيدة جمال صادق)، وتربيته الصالحة لولدين واعدين (محمد وأحمد)، وإستقراره في محلة رأس بيروت؛ كلها عوامل جعلته عصياً على المذهبيات والعصبيات وغيرها من أمراض الحرب الأهلية ومن بعدها سلمنا الأهلي الذي لم يكتمل حتى يومنا هذا. نعم كان عدنان يتعصب للصحافة الإقتصادية وأن تكون مرآة لهموم الناس.. كان يتعصب للناس الطيبين الذين كانوا يعترضون طريقه سائلين عن خبزهم وسلة إستهلاكهم وودائعهم وهمومهم وكان يجيبهم ببساطة الخبير والعارف والعلامة.

لم يمنعه ذلك من بناء علاقات مع “غيلان” القرار الإقتصادي والمالي ممن إقتحم اسوارهم محاولاً مجادلتهم بالتي هي أحسن. نسج مع هؤلاء علاقات جعلته حاضراً في صلب القرار الإقتصادي والمالي، حتى أن عدنان صار مستشاراً بالمجان للكثير من هؤلاء، فضلاً عن العديد من السياسيين الذين كانوا يلجأون إليه سائلين ومستفسرين ومدققين في الأرقام والمعطيات وعلى رأسهم الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورئيس الحزب التقدمي الإشتراكي النائب وليد جنبلاط الذي جعل من عدنان “ترجمانه الخاص” في الملفات الإقتصادية والمالية والإجتماعية الصعبة مثل الكهرباء والضمان وسلسلة الرتب والرواتب وغيرها.. ناهيك عن إختزال هذه العلاقة ما يمكن تسميتها “الوصفة السحرية” في علاقة ابناء ساحل الشوف (إقليم الخروب) بدارة المختارة.

هذا الإنفتاح على الوسط الإقتصادي الأكثر ثراء في البلد قابله حرص عدنان على مسألتين اساسيتين: علاقته المميزة مع قادة الحركة العمالية في لبنان أولاً وقيادة الهيئة النقابية العمالية في “السفير” ثانياً؛ لكأنه بهذين الأمرين أراد أن يتوازن مع نفسه أولاً بحيث لا يكون تفاعله مع النافذين إقتصاديا وماليا ومصرفيا على حساب حضوره في الصفوف الأمامية في قضايا الناس الفقراء التي لا تقبل الأخذ والرد.

هذا الشاب الذي دخل عالم الصحافة الإقتصادية بحذر وخجل صار مع الوقت يلعب في ملعب الأرقام والبيانات. ولعلني أستذكر ومعي باقي الزملاء في هيئة تحرير “السفير” في السنوات الأخيرة، كيف كان “الكابتن” يدخل علينا في إجتماع التحرير الصباحي، وبيده مجموعة أوراق سرعان ما تتطاير أرقامها بين الحاضرين، قبل أن تكر سبحة الإتصالات عليه، وعندما كنا نعترض على عدم إحترام حرمة الإجتماع كان يُجيبنا بلغة “الخبير” أن هذا موعد إقفال البورصة أو طرح سندات أو صدور تقرير. كان عدنان الحاج “سنترالاً” متنقلاً من الإتصالات والمعلومات. الهاتف الخلوي لا يهدأ على مدى ساعات النهار، وعندما يعود إلى اسرته في آخر النهار، يتأبط تلفونه بوصفه سلاحه الذي لا يُفرط به.. قبل أن يتوقف كلياً عن الطنين والرنين، يوم أطفأت “السفير” أنوارها ولا سيما الطبقة الرابعة التي صارت في السنوات الأخيرة بيت عدنان الحاج، حيث يبدأ صباحه في مكتبه العابق برائحة السيكار ويختتمه فيه مع آخر فنجان قهوة يحتسيه بعد إجتماع التحرير المسائي.

الأهم من ذلك كله أن عدنان الحاج كان مرحاً وظريفاً للغاية، ولا تحتاج المسألة عنده سوى إلى حبكة سريعة حتى يرمي نكتة أو خبرية تكسر جو الجدية وتتحول “لمعاته” الطبيعية إلى سيرة يومية في حياة الجريدة الداخلية. وعندما كان عدنان يختلف مع اي من الزملاء في أي أمر من أمور التحرير (في السياسة والإقتصاد والرياضة وغيرها)، لا يترك لهكذا إختلاف أن يدوم أبعد من أمتار مكتبه. طيبة عدنان لا تحتمل كراهية أو حقداً بل إنفتاحا ومبادرات جعلته “زعيماً” في الجريدة ونجماً في ميدان الصحافة الإقتصادية، بدليل إستعانة الكثير من الفضائيات المحلية به في المفاصل الإقتصادية الأساسية.

عندما أطفأت “السفير” أنوارها في مطلع العام 2017، كان أثر هذا الغياب كبيراً على الأسرة كلها، ولكن عدنان كان أكثرنا حزناً وتأثراً وهو الذي كان يعتبر الجريدة بيته ومكتبه وعائلته وعنوان تواصله الدائم مع الناس.

وهكذا في عز زمن الفقدان، يرحل عدنان الحاج. غادرنا الصديق المخلص لكل من عرفه، والكاتب الاقتصادي الذي كان ركنا من أركان “السفير” على امتداد مسيرتها، والمعلم الذي عرفه الصحافيون الاقتصاديون سنداً، وهابه واحترمه العاملون في المجال الاقتصادي في لبنان، على مستوياته كافة، وكان مستشارهم الدائم، لما يعرف من خبايا هذا العالم المذهب. كل العزاء لأسرة “السفير” وزملاء مهنة المتاعب.. والعزاء الأكبر لعائلته وأهله.. لهم الصبر والسلوان وأن يفتخروا دائماً بسيرة إنسان أعطى بلده ومؤسسته وعائلته أجمل ما عنده، فكان فارساً من فرسان الصحافة اللبنانية.

عن mcg

شاهد أيضاً

MontyPay تحدِث ثورة في قطاع الأغذية والمشروبات: 

إطلاق حلولٍ مبتكرة في معرض هوريكا   سجلت MontyPay، الشركة العالمية المزوِّدة لخدمات الدفع، مشاركة لافتة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *